Atwasat

على أعتاب النهايات!

سالم الهنداوي الخميس 30 نوفمبر 2023, 02:57 مساء
سالم الهنداوي

.. في العالم اليوم لدينا ثلاث حروب مشتعلة بدرجات متفاوتة، لعلّ أهمُّها وأخطرها بعد حرب "البوسنة" وحصار "موستار" قبل ثلاثة عقود، الحرب على غزّة وحصارها في هذا الخريف الدامي، ثم الحرب في أوكرانيا التي تدخل شتاءها الثاني بلا رابح ولا مهزوم، وثالثها حرب الأشقاء في شمال السودان التي تدخل شهرها الثامن صامتة بلا أصوات إقليمية أو دولية، تبتلع نيرانها وقد غاب عنها الإعلام.

كما لدينا في المنطقة أزمات أمنية مستعصية، في اليمن بتداعيات الحرب الحوثية، وفي سوريا والعراق بعد الحربيْن على التنظيمات الإسلامية كـ"جبهة النصرة" المنبثقة عن "القاعدة" والتي سُمّيت في ما بعد بـ"هيئة تحرير الشام"، ثم "داعش" في المسلك والسلوك الذي غيّر قاعدة المواجهة، إضافة إلى الأزمة "الكردية" التي تهدِّد أمن حدود البلدين مع تركيا.. وتأتي الأزمة الليبية مع فراغ سياسي حقيقي ربّما يستمر لسنوات طويلة من الضياع، تليها الأزمة الدستورية في تونس بكنس فلول "النهضة" الإخوانية في البرلمان وسيطرة الليبراليين على المشهد، مروراً بأزمة الجزائر مع جارتها المغرب على خلفية هبوب رماد "البوليساريو" من الصحراء، وأزمة "الرئيس" في لبنان بوجهة البوصلة الشيعية وسيطرة "حزب الله" على سبعين مقعداً في البرلمان، إضافة لأزمة "العيش" الصعب في مصر نتيجة سياسات التقشُّف والارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار.

أمام كُل هذه الحروب في العالم وكُل هذه الأزمات السياسية والاقتصادية في المنطقة، ثمة مستفيد وثمة خاسر بطبيعة الحال.. والولايات المتحدة، بلا شك، من أهم الدول الكُبرى المستفيدة من هذه الحروب والأزمات، وهي من تملك الإرادة لوقف الحرب في أوكرانيا، والحرب في السودان، والحرب الأشد على غزّة.. كما يمكنها وضع حدٍ لنهاية الأزمة الليبية والفصل في أزمة الحدود العراقية السورية التركية، وتمكين السياسات المانعة ضد إيران وتدخلاتها السافرة في منطقة الخليج العربي.. ويبقى لفرنسا الدور الأهم في حلحلة الكثير من الخلافات العالقة في لبنان والمغرب العربي وجنوب الصحراء الكُبرى.

هذه الحروب والأزمات التي ترحي الضعفاء وترفع من شأن العُملاء، هي لعبة الأقوياء في عالم يقوم على مصالح الكِبار لا على حاجة "الأمم الضعيفة" في هيئة أممية تفقد قيمتها وتخسر رصيدها بين الشعوب والأمم.. ولأن مصالح الأقوياء تبيح سفك الدماء كما في معظم الحروب وهي من يصنع السلاح، وتبيح الفوضى كما في معظم الأزمات وهي من يخلقها، وبالتالي فهي لا تستجيب لنداء العدل الذي تأسَّست عليه المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وأقلّه حماية المدنيين في النزاعات المسلّحة.

جميع المواثيق الدولية المنبثقة عن هيئة الأمم المتّحدة منذ تأسيسها في العام 1945 كانت وليدة حروب وأزمات، لكن معظم هذه المواثيق ظلّت رهينة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وعلى رأسها القوى العُظمى صاحبة حق النقض "الفيتو" الولايات المتّحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا، والتي تتقاطع مصالحها على الأرض بحجم نفوذها العسكري والاقتصادي في العالم بقوّة امتلاكها للترسانة "النووية" التي تجلس على موائد المفاوضات قبل جلوس القادة!

بانتهاء الحرب العالمية الثانية هدأت البشرية على قبور الضحايا في الشرق والغرب، ودخل العالم في سلامٍ ممنهج على قاعدة الولاءات للمنتصرين، فأصبح تصنيف العالم بين الأول والثاني، وكان الثالث من نصيب الدول الضعيفة في الشرق الضعيف التابع والمستهلِك للنتاج الاقتصادي والسياسي لدول الغرب الذي ازدهر على حساب الضُّعفاء بصناعة الأسلحة وصناعة الديمقراطية، فكان "النفط" الذي طفر في عددٍ من البلاد العربية وأمريكا اللاتينية خلال الخمسينيّات والستينيّات، مُجرّد بضاعة سوداء سائلة لعائد مالي يكفي ثمن نيل الاستقلال، ويكفي ثمن العيش والتعليم والرعاية الاجتماعية والصحّية ودعم الصناعات الصغرى، حيث لا جرأة سياسية يمكنها القرار بدخول عالم الصناعات الثقيلة، كما لا مجال لها لإنجاز الأبحاث الاستراتيجية الدقيقة والبحث العلمي في الفيزياء المتطوِّرة للطاقة الذرّية.. فظلّت دول الخليج مُنتجة للنفط وغير صناعية ومُستهلِكة لما ينتجه الغرب، كذلك الحال مع الجزائر وإن حاولت.. أما ليبيا التي دخلت سوق الصناعات "البتروكيماوية" في الثمانينيّات وحاولت التصنيع "النووي" للطاقة الذرّية بإنشاء "مصنع الرابطة" غرب طرابلس والذي تم رصده وتهديده، ومن ثم تفكيكه وتسليم معدّاته لأمريكا في عهد الرئيس "بوش" الابن، في مقابل ضمانات سرّية بعدم المساس بنظام القذافي الذي تزعزع أمنه بعد أحداثٍ متعاقبة، من مقتل الشرطية البريطانية أمام السفارة الليبية في لندن عام 1984، إلى تفجير ملهى "لابيل" في برلين عام 1986، إلى تفجير طائرة "بانام" الأميركية فوق لوكيربي عام 1988، إلى تفجير طائرة "يو تي إيه" الفرنسية فوق النيجر عام 1989 وقد مال نظام القذافي للسقوط بعد الإطاحة بصدّام حسين في العراق، وكانت ليبيا في الثمانينيّات قد دفعت ضريبة مواجهتها لأمريكا في عهد إدارة الرئيس "ريغان" الذي قصف طرابلس وبنغازي عام 1986، وفرض عقوبات دولية قاسية لمدة عشر سنوات من الحصار والتجويع.. وقد انتهت هذه القضايا بتسويات سياسية وبدفع تعويضاتٍ مالية باذخة لم تقفل ملفاتها القانونية مع الدول المعنية ولا مع أسر الضحايا.

كان الإصبع الأميركي الغليظ في تلك الفترة من العداوات ضاغطاً على الدول الداعمة للقضية الفلسطينية ولحركات التحرُّر في العالم، ومثل ليبيا والعراق وسوريا، كانت كوبا وفنزويلا وبنما ونيكاراغوا في أمريكا اللاتينية، وإيران والصين وكوريا الشمالية في آسيا، وجميع هذه الدول "المارقة" تعرّضت لعقوبات أمريكية ودولية لم تستطع ردعها إلّا بعد التخلُّص من معظم قادتها الثوريين اليساريين أمثال فيدل كاسترو ومانويل نورييغا ودانييل أورتيغا وهوجو تشافيز.

باستثناء الندّيْن الكبيريْن روسيا والصين، دفعت الدول الصغيرة ثمن مواجهتها للدول الاستعمارية الكبيرة دون تحقيق أدنى نتيجة رادعة لعنجهيتها وغطرستها، لكن تبقى القيمة في حقيقة العداء التاريخي الذي تصفه السياسة الدولية بـ"صراع الوجود"، والذي ينتصر فيه الحق حتى وإن لم ينل من المكاسب سوى الوقفة التاريخية الشجاعة في وجه الظُلم مهما كانت النتيجة، ولتكن النتيجة كما عبّر عنها "آرنست همنجواي" في روايته "الشيخ والبحر" بقوله: "قد يُدمَّر الإنسان، ولكنّه لا يُهزَم".. وتلك نتيجة ساطعة نراها اليوم في غزّة على أعتاب النهايات!