Atwasat

أحزابٌ من ورق

جمعة بوكليب الأربعاء 22 نوفمبر 2023, 01:20 مساء
جمعة بوكليب

«الليلة حُوشنا ضاوي.. الليلة فيه السعداوي» أغنية شعبية كنت صغيراً أسمعها تردد من قِبل النساء في حفلات الأعراس، وغيرها من المناسبات. تلك الأغنية شاعت في الجزء الغربي من ليبيا في مرحلة الأربعينيات من القرن الماضي. السعداوي المذكور في الأغنية هو المناضل المرحوم بشير السعداوي، وظهرت الأغنية غداة عودته إلى طرابلس من منفاه في المملكة العربية السعودية. الأغنية معروفة جداً، وأعتقد أنها حتى فترة قريبة زمنياً ما زالت تُغنى في حفلات الأعراس بتنويعات جديدة.

 

المرحوم السعداوي عاد إلى طرابلس الغرب بعد هزيمة الإيطاليين في الحرب العالمية الثانية، وبدء مرحلة الانتداب البريطاني على ليبيا. والمصادر التاريخية تؤكد أن السلطات البريطانية هي من شجعت المرحوم السعداوي على العودة إلى طرابلس، بغرض إفشال مشروع «بيفن – سفورزا» المقترح من قِبل الإيطاليين، وبموافقة البريطانيين، لتقسيم ليبيا إلى ثلاثة أقاليم، يوضع كل واحد منها تحت وصاية دولة أوروبية: طرابلس تحت وصاية الإيطاليين، وبرقة تحت وصاية البريطانيين، وفزان تحت وصاية الفرنسيين.
البريطانيون، على الرغم من موافقتهم على المشروع المقترح في العلن، كانوا يتآمرون على إفشاله في السر، بهدف الاستحواذ على الوصاية على ليبيا وحدهم. لذلك، لجأوا إلى فكرة إعادة المرحوم السعداوي.

وبالفعل، ومنذ وصوله، أسس المرحوم السعداوي حزب المؤتمر، وبدأ في تحريض المواطنين في طرابلس على رفض المشروع من خلال تنظيم وقيادة التظاهرات الشعبية، حتى سقط المشروع، ونجحت الخطة البريطانية.
ولعل من أهم إنجازات المرحوم السعداوي تأسيسه حزب المؤتمر، وفي رأيي الشخصي، تمكن تحت قيادته من جعله واحداً من أهم الأحزاب السياسية التي عرفتها ليبيا، وأكثرها فعالية في تجميع المواطنين وتوحيد مشاعرهم الوطنية، والمطالبة بتحرير ليبيا واستقلالها ووحدتها.

حزب المؤتمر -للأسف- انتهى في أول انتخابات نيابية أجريت في عهد الاستقلال، حيث صدر مرسوم ملكي بإلغاء الأحزاب، وطردت الحكومة -وقتذاك- المرحوم السعداوي من البلاد، وأعادته إلى منفاه في المملكة العربية السعودية. وبذلك، أُسدلَ الستار نهائياً على أول تجربة سياسية حزبية في ليبيا. ومنذ ذلك اليوم لم تقم للأحزاب قائمة في البلاد حتى نهاية الحكم العسكري الديكتاتوري في فبراير 2011.

منع الأحزاب وحظرها من العمل السياسي العلني لم يكن عائقاً أمام ظهورها في السر. لكن العمل الحزبي في السر يختلف كثيراً عن العمل في العلن، وبحماية القانون والدستور. وانتهى غالبية أصحابه إلى السجن، أو العيش في المنفى، أو الموت شنقاً.

عقب الانتفاضة الفبرايرية، ظهرت الأحزاب كما يظهر الفِطر في الصحراء بعد المطر، أي بأعداد كبيرة، وبرايات متنوعة، وبأسماء قيادات وشخصيات هبطت من السماء، ولم يكن لغالبيتها أي وجود على خريطة المواجهة ضد الحكم الاستبدادي العسكري. وكما ظهرت بسرعة اختفت بسرعة، وصار الوضع السياسي قائماً على مبدأ «عِدْ رجالك وأُوردْ على ألمي».

وأخيراً، ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت، أطلعت على بيان صادر باسم «الأحزاب السياسية الليبية»، بتاريخ 30 أكتوبر 2023، بخصوص تمديد عمل البعثة الأممية في ليبيا تحت رئاسة السيد عبد الله باتيلي لعام آخر.
ولن أخوض في تفاصيل ذلك البيان، لعلمي أن أغلبية القراء قد أطلعوا عليه. وما لفت اهتمامي، وأثار دهشتي، حقيقة، ليس البيان في حد ذاته، لكن الأحزاب الموقعة عليه. من يصدق أن في ليبيا 68 حزبا سياسيا؟ الرقم يبدو غريباً، لكن عدد الأحزاب الموقعة على ذلك البيان بلغ 68 حزبا ومنظمة سياسية.

وشخصياً، لا أعرف منها سوى حزب واحد: حزب السلام والازدهار تحت قيادة الصديق المهندس محمد خالد الغويل. ومعرفتي مرجعها إلى أنني زرت مقر الحزب في منطقة حي الأندلس، وحضرت عدداً من المحاضرات التي أقامها.

ذلك المقر، وذلك النشاط الثقافي والسياسي التوعوي، وفعالية وحيوية المهندس الغويل في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي كانت الأسباب وراء علمي ومعرفتي وإدراكي بوجود حزب سياسي ليبي بقيادة كوادر حقيقية، وأهداف سياسية معلنة وواضحة. وهذا يعني، حسب علمي، أن بقية الأحزاب ورقية، لا تظهر إلا في المناسبات فقط، وعلى أوراق البيانات التي تصدرها بالإدانة والشجب أو بالقلق. أما الوجود الفعلي على الأرض، وبين الناس، فلا تسأل. وعلى سبيل المثال لا الحصر، من منكم سمع بحزب اسمه حزب قوى الشعب العاملة؟ هل لذلك الحزب وجود فعلي؟ ومن هم مؤسسوه؟ وهل له مقرات وأين؟ أم أن مقره جهاز حاسوب في حقيبة شخص لا نعرفه ولم نسمع به؟ وهذا يقودنا بالضرورة إلى الارتياب في حقيقة تلك الأحزاب، والشك في نوايا من أسسوها، ويوقعون باسمها وأختامها.

إنها في الواقع الفعلي أحزاب انتهازية، وجدت على الورق لخدمة وتحقيق أهداف شخصية بغرض الحصول على منافع أو مناصب أو غيرها. ومن الأخير، أنها توفر فرصة للاحتيال، مهما سَمَتْ الشعارات والرايات التي ترفعها، والأهداف التي تدّعي أنها تسعى إلى تحقيقها.