Atwasat

معركة الفاشية التالية

عبد الكافي المغربي الإثنين 16 أكتوبر 2023, 09:41 مساء
عبد الكافي المغربي

لطالما بقي العالم الغربي، الذي يحتكر مفهوم الحضارة، ويقدم سردية نهاية التاريخ في ديمقراطياته الفاشية، قلنا لطالما بقي منسجما مع سقوطه الأخلاقي بالقياس إلى بريق مبادئه التي تعمل المزيد من القوانين على تصفيتها. بيد أن العالم غير المتحضر عاجز أكبر العجز، تقنيا وعقليا، لتحدي أكبر القوى الفاشية، الولايات المتحدة، وإيقافها عن سعيها الثابت لحرمان هنود الشرق الأوسط من ربع مساحة تراب وطنهم المسلوب.

يستند أمل عربي واهن إلى صعود إيران كقوة إقليمية لها قدرات نارية مهولة، بيد أن قارئ تاريخ الشرق الأدنى الحديث يدرك أن إيران وحلفاءها إذا ما قفزوا بجنون ناصري إلى هاوية الحرب فربما تضطر روسيا للتخلي عن أكبر حليف. ذلك أنه من غير المعقول تخيل أن تقف روسيا مع إيران والمقاتلين، مخاطرة بقيام حرب نووية إزاء تمسك الولايات المتحدة بالكيان الشائه أكثر من عزم نية إمبراطور الكرملين لضم أوكرانيا.

في كتابه «تحطيم العقل»، أورد المفكر الماركسي المجري جورج لوكاش احتفاء موسوليني بالأسطورة: «الأسطورة أشد الوسائل نجاعة لحشد الطاقات البشرية. إنها شغف. هي حماس واتقاد عزم»، وهي أسطورة تاريخ تلمودي تلك التي تستند إليها اللاعقلانية الغربية التي تدعم الدولة الدينية في تناقض مخيف مع القيم والمبادئ التي هي سلاح اللاعقلانية الفاشية الأول والأنجع الذي قوض الكتلة الشرقية والاتحاد السوفياتي، وهو الذي يتصدى للفاشية الروسية كأنما هي لا تمثل امتدادا أقل نفاقا لغياب عقلانية غربية مزمن. الفاشية الغربية تخوض معركة تالية، هذه المرة ضد عدو مستضعف مجرد من الكرامة، مغضوب عليه من أصحاب الحل والعقد في العالم. هذه صورة ترجو الالتزام بالاتزان في الطرح لرؤيتي للمعركة الجديدة للفاشية الغربية.

لم تقم دولة إسرائيل العام 1948 لأن العالم الغربي استولت عليه مشاعر الأسف الإنساني الصادقة من معاناة اليهود في الحرب العالمية الثانية، وحملات الاضطهاد والتطهير التي شملت شتاتهم في أوروبا في العصور الوسطى والحروب الدينية. إن القوة الغاشمة، المؤسسة للحقوق، ستقوض نفسها إذا استبدلها الضمير، لاستنادها في واقع أمرها على تهجير وإبادة الشعوب والحضارات الأصلية. هذا وقد نطقت الفاشية وعد بلفور في الحقبة الإمبريالية قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى في وقت لم تحضر فيه النازية كتيار شعبي. إنما أُنهِضت إسرائيل على قدميها لأنها ستكون وكيل الغرب الحاضر دائما في منطقة مهد الحضارات، المنطقة التي تملك مقومات للصعود كقوة عالمية في كونفدرالية اقتصادية وعسكرية هائلة إذا أرادت أن تعطي العلم أولوية في عصرها الذي يعد بالقضاء، على مثال الصين، على احتكار التقنية في الغرب.

هذا سر تمسك الفاشية الغربية وإعلامها غير المتزن بالكيان الديني العنصري. لم تقصد أوروبا التخلص من غيتوهات اليهود على أراضيها، كلا، ولم تأسف لما فعلته بهم في وقت كانت فيه فرنسا وبريطانيا تتمسكان بمستعمراتهما. إن أوروبا وكندا وأميركا لن تعترض على تسوية تضمن سلامة الهوية اليهودية لإسرائيل، وسترحب بغيتوهات فلسطينية على أراضيها.

هذا مبدأ التشاؤم من مجريات الأحداث في الشرق الأوسط، فالفاشية الغربية تتصور، بمثل القدر الذي تحضر فيه الدولة حية في الحاكم الفرد في منطقتنا، أن الكفاح المسلح إرهاب. حزب العمال والمقاومة الفلسطينية الإسلامية والقومية والشيوعية تعد منظمات إرهابية. خنادق الطلبة في باريس ولندن جرى تقويضها، ومعها الحلم بنظام اشتراكي أكثر إنسانية. وقد باتت للفاشية سلطة على الذهن الغربي مع إسكات الأكاديميين، وابتذال الفكر في الصحافة، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وظهور نزعة لتصوير الديمقراطية الغربية على حالها هذا بمثابة اليوتوبيا الأخيرة.

كما أنه من سوء حظ المعلقين العرب والفلسطينيين اصطدامهم بقوانين معاداة السامية، ونطق الصحف وإعلام الإمبريالية الغربية باسم الكيان الإرهابي. بل إن المفكر والكاتب أو الأكاديمي العربي يخاطر بمنصبه في المؤسسات الغربية إذا ما استخدم نفوذه الفكري لإدانة إسرائيل، وقيادة حملة لمقاطعتها، وإنفاذ القانون الدولي ضدها، القانون الذي طال رئيس ثاني أعظم قوة في العالم.

القصد من هذا الطرح أن الكيان الذي تأسس على اغتصاب الأرض وإبادة السكان لن يقبل بأهم مبادئ الديمقراطية، ليبرالية التنوع والانفتاح. والسيناريو البائس الذي يبقى، والمكلف حقًا للدول المحيطة بفلسطين، حرب شرسة تخوضها إيران وسورية والفصائل المسلحة بالوكالة عن الروس. إسرائيل لم تعتد تهديد مدنها وبلداتها بالصواريخ، وإذا زادت حدة الصراع ارتفعت كلفته الإنسانية والاقتصادية، وسيلي ذلك سباق طويل النفس، من يتعب أولا: الشرق في دعم إيران وشبكة وكلائها أم الغرب في دعم إسرائيل وأوكرانيا. إن تردد الشيوعية الستالينية المناهضة للإمبريالية في الاصطفاف بكل قوة خلف الفاشيات الاشتراكية العربية يشي بأن الفاشية الروسية غير معدة أيديولوجيا لدعم سيناريو حرب دينية. ذلك أن خطاب إيران ورغبة الشعوب الإسلامية يفضيان بنا إلى صراع أصولي بقدر ما هو خطر لإسرائيل، بقدر ما هو مبدد للآمال في تسوية القضية الفلسطينية بشكل شامل وعادل.

لكن الأمل لا يموت. إن الزمن في عدوه المحموم على الدول والحضارات والأفكار والأيديولوجيات ليس عدميا بالمطلق، فاحتمالات يشع منها الأمل تبقى حاضرة لطالما بقي شعب يؤمن بحقه في أرضه. إن رفض إسرائيل امتصاص هنود الشرق الأوسط مقدمة نهايتها في العقود أو القرون التالية.