Atwasat

أفاطم مهلا: جماليات تعدد الأصوات

إبراهيم حميدان الخميس 05 أكتوبر 2023, 07:31 مساء
إبراهيم حميدان

" أفاطم مهلا "(1) رواية جديدة صدرت لمروان كامل المقهور، وهي أول عمل للكاتب، وبها ينضم مروان إلى قائمة كتاب الرواية في ليبيا التي تشهد انتعاشا بفضل إقبال العديد من الكاتبات والكتاب على كتاباتها وإغناء المكتبة الليبية والعربية بأعمال روائية مميزة، ومن بينها هذا العمل الذي ينبيء عن مبدع موهوب امتلك أدواته الفنية التي جعلته يقدم لنا عملا روائيا ممتعا جديرا بالقراءة.

الكاتب في هذه الرواية اعتمد تقنية تعدد الأصوات التي كان الناقد الروسي ميخائيل باختين أول من نبه إليها خلال دراسته لروايات ديستويفسكي، في كتابه "شعرية ديستويفسكي" حيث لا يتولى السرد صوت واحد فقط، أي السارد العليم، كما في الرواية التقليدية، بل تتعدد الشخصيات التي تروي أحداث الرواية، ما يمنح الشخصيات استقلاليتها، وتتصارع فيما بينها، وتطرح الرؤى المختلفة من زوايا متعددة. وهذا مانراه في هذه الرواية التي تتعدد فيها الشخصيات في مقدمتها الزوج "الصادق" والزوجة "فاطمة" اللذان يقرران الهجرة عبر مراكب تهريب البشر في طرابلس يرافقهما طفلهما "الطاهر" المصاب بمتلازمة داون. لم يدفعهما إلى المخاطرة بركوب البحر شظف العيش، ولا انقطاعات الكهرباء، ومعاناة مناخات الحرب في المدينة، لكنهما اتخذا هذا القرار بسبب ابنهما "الطاهر" الذي صار يُنعَت في الشارع والمدرسة بـ "المنغولي" ويتعرض للسخرية والاستهزاء من قبل رفاقه.

في المركب يجدون أنفسهم في صحبة أشخاص من مختلف الجنسيات والأعراق، ينضم إليهم الليبي الوحيد في المركب "وضاح" شاب من الجنوب الليبي تخرج ولم يجد عملا في الدولة، فانخرط في التجارة بسوق الكريمية بطرابلس، ثم جاءت الحرب وكسدت تجارته، وتخلت عنه حبيبته "رحاب" فقرر أن يشد الرحال إلى إيطاليا، بحثا عن فرصة لحياة أفضل.

لقد عرف الليبيون الهجرة حين هاجر الأجداد هربا من بطش الاحتلال الإيطالي إلى دول الجوار، واقتصرت الهجرة حينئذ على بعض الدول العربية وجنوب الصحراء، كما عرفوا الهجرة إلى أوروبا عندما استبد النظام في حكمه، صادر الحريات، وقطع التجارة، لكن الليبيين ظلوا خلال هجرتهم في هذه المرحلة مختبئين في المدن التي هاجروا إليها، خشية أن تطالهم أيدي النظام الديكتاتوري الذي قد يقتلهم باعتبارهم من المعارضين. وسكنوا معزولين عن بعضهم البعض، ولم يتواصلوا مع بعضهم خوفا وتوجسا من أن يكون من بينهم من له علاقة بأجهزة الأمن، ولذا لم يُكونوا لأنفسهم جاليات في المهجر ولم يتركوا أثرا.

عقب وصول قارب المهاجرين إلى الشاطئ يتم احتجاز "الصادق" و"وضاح"، وعن طريق منظمة الهجرة يسمح لـ "فاطمة" وطفلها المريض بالخروج، ويُمنحان شقة صغيرة في مدينة "بيزا" الإيطالية، واختيرت هذه المدينة مكانا لإقامتهما لوجود مركز علاج لمثل حالات ابنها.

كما تتحصل الأم على مرتب تُنفق منه على نفسها وابنها الذي ينضم إلى مدرسة إيطالية، ويحرز فيها تقدما لافتا، وبناءا على اقتراح من معلمته تنضم "فاطمة" إلى لقاءات أسبوعية تلتقي خلالها بآباء وأمهات يمرون بأوضاع متشابهة، يتبادلون الحديث والتجارب، وتتعرف هناك على "كاتارينا" الإيطالية أم الطفلة المعاقة "فورتوناتا"، المصابة بمرض "كاستيلو" النادر، وزوجة المحامي "انجيلو".

هذه الأم تصبح صديقة "فاطمة" وتُعينها على التعايش مع المجتمع الإيطالي الجديد، ومواجهة تحديات الغربة، وتجد فيها السند في ظل غياب زوجها الذي يبقى قابعا في الحجز لعشرة أشهر، تعيد خلالها "فاطمة" اكتشاف نفسها وقدراتها، فتنخرط في تعلم اللغة الإيطالية بمعهد اللغات دعما من إدارة المهاجرين، ثم تلتحق بالعمل مع صديقتها "كاترينا" في محل يبيع المواد الغذائية والأطعمة الفاخرة، وتقود الدراجة لقضاء حوائجها، وفي الإجازة تسافر رفقة "كاتارينا" إلى "باريس"، وبفضل مثابرتها وجديتها تُحقق نجاحا مضطردا في عملها، وتُقنع مديرها بكفاءتها وإخلاصها في العمل، لكنها تَصدّه عنها بقوة حين حاول أن يتحرش بها، وكذلك فعلت مع طبيب الأسنان الذي يعالج أسنان ابنها. لقد اكتسبت خبرة ومهارة في التعامل والتخاطب مع البيئة الجديدة، حتى إذا خرج زوجها من الحجز، وجد امرأة أخرى أكسبتها الغربة واعتمادها على نفسها في العمل وتعلم اللغة الإيطالية نضجا وتطورا في شخصيتها، ولم تعد "القطوس المغمضة" التي كانت عليها حين تزوجها، فهي التي تُنفق عليه وعلى ابنها، في حين استمر "الصادق" يبيع الخضروات في أسواق المهاجرين، التي لا تعود عليه إلا بأموال قليلة، ما جعله يضيق بهذا الوضع، وينزعج من ضعفه أمامها، وقد صارت هي الأقوى، فيهرب فجأة بابنها عائدا به إلى ليبيا دون أن يخبرها بذلك، ليتصل بها هاتفيا من طرابلس يطلب منها العودة إلى البلاد، متخليا عن إمكانيات العلاج والدراسة المتاحة للابن، وقرب حصولهم على تصريح الإقامة في إيطاليا الذي كانت تعتبره" فاطمة" شهادة ميلاد جديدة، تنقلها من خانة اللاجئة إلى مقيمة تشملها الرعاية الصحية، والعيش في بيئة ساعدتها على تعزيز مكانتها وتطوير نفسها، وتغيير حياتها إلى ماتريد، لكن "فاطمة" رغم الألم الذي تسبب فيه تصرف زوجها الذي اعتبرته تصرفا غادرا، وحرمانها من ابنها ، لم تنكسر، وقررت البقاء في عملها والمدينة التي اختارتها، حتى إذا طلقها زوجها وتزوج بامرأة أخرى، تزوجت هي من "وضاح" الشاب الذي ركب معهم البحر وظل بالقرب منها خلال أزمتها، وأخرجها من همومها ومنحها توأمتين جميلتين، وجدت فيهما مايدفع أحزانها ويعوضها عن فقدها ابنها الطاهر.

في الرواية التي جاءت في 30 فصلا ، و181صفحة شخصيات أخرى تروي حكاياتها مثل المحامي "انجيلو" زوج "كاترينا" الذي يثمل كل ليلة حزنا على ابنته التي فقدها، يخاطب الله متسائلا كيف يمكن للمرء أن يدفن أبناءه، والعجوز السنيور "فاردي" صاحب محل بيع المواد الغذائية، وشادي اللبناني، ومرسال والد "وضاح" وغيرهم.

استطاع الكاتب أن يقدم لنا رواية متعددة الأصوات، كل شخصية تروي القصة من جانبها، وتقدم لنا الأحداث من منظورها الخاص، في حين يتوارى صوت المؤلف الذي رسم ملامح شخصياته ببراعة كبيرة، وقدمها لنا في تنوع عوالمها الداخلية، وتباين مسارات حياتها، عبر لغة أدبية مكثفة لاتخلو من شاعرية، ومشاهد سينمائية تنتقل بنا عبر أزمنة متعددة الماضي والحاضر، وعبر أماكن متعددة، طرابلس، وبيزا، ووادي الشاطيء، ليرسم لنا واقع حياة المهاجرين في "بيزا" الإيطالية، والعلاقات الإنسانية فيما بينهم، وقد لجأوا إلى هذه البلاد بحثا عن حياة كريمة افتقدوها في أوطانهم، كما يصور لنا علاقة هؤلاء اللاجئين مع الإيطاليين، بعيدا عن الصورة النمطية الشائعة لمثل هذه العلاقات، فهناك من يتعامل بتعالٍ وأحيانا بعنصرية تجاه المهاجرين مثل طبيب الأسنان، لكن المحامي "أنجيلو" الذي كان يتعامل مع المهاجرين بشيء من التعالي تتحسن علاقته بهم وتتغير نظرته لهم عقب وفاة ابنته، وكذلك الأمر بالنسبة لصاحب المحل العجوز السنيور "فاردي" الذي تتغير نظرته وبالتالي تعامله مع "فاطمة" بعد أن يلحظ كفاءتها في العمل، كما يقدم المؤلف لنا بعيدا عن هذا كله علاقة إنسانية في غاية الجمال بين "كاترينا" الإيطالية و"فاطمة" الليبية.

أشير أخيرا إلى براعة الكاتب في استخدام اللهجة سواء في تضمينه الأغاني والأشعار الشعبية كعناوين للفصول، وأيضا في الحوارات بين الشخصيات، حيث كانت هذه الحوارات تعكس دائما ملامح الشخصية، لايقتصر الأمر على لهجة "فاطمة " فقط بل أيضا لهجة والدتها وهي تكلمها عبر الهاتف، ولهجة "الصادق" المليئة بالتعبيرات الحزينة، ولهجة "وضاح" المشاكسة، ولا تقتصر براعة الكاتب في استخدام اللهجة الليبية فقط بل أيضا لهجات العراقي الكردي والتونسي واللبناني. دون أن أنسى الإشارة إلى تحويل العبارات الإنجليزية إلى اللهجة الليبية كما استخدمها "وضاح": "سيم سيم... بت دفرنت" وتلك التي استخدمها "الصادق": "تو بي اور نوت توبي.... ذاتس ذا كويستشن"ؤ.

1- مروان كامل المقهور، أفاطم مهلا، دار الفرجاني ، 2023