Atwasat

نقوش قديمة على باب درنة!

سالم الهنداوي الخميس 05 أكتوبر 2023, 04:10 مساء
سالم الهنداوي

.. لم يترك لها ذلك الزمن مساحة من الوقت والعافية لترى زهراتها البيضاء تتفتّح في عيون عاشقيها، فقد داهمتها أحذية "داعش" بخليط من اللحي والوقاحة والعبط، بضلالات بهيمية زاحفة بزعانف الفقر.. تفتي بتحريم كُل الحلال في الدنيا، ولتقع فريسة ضباع الخراب التي حلّت بالبلاد وقهرت فرحتها بالحزن الأسود على أعتاب البيوت، لكن كانت أحلام "الدراونة" أكبر من أحلام "زمرة الحرام" التي داست على الجسد والعقل لقتل الحياة في درنة ولتنزع عنها هويتها الثقافية وعراقتها، فظلّت درنة كما شاءت أن تكون عبر التاريخ بلاد الفرح بأشعارها وموسيقاها وبتيماتها الأندلسية الرغداء، تنام على صوت شلّالها البديع وخرير المياه في سوانيها الفيحاء، وتحلم بالصباح الذي لاح من جديد على أغصان العرائش اليانعة وامتشق الضوء ياسمينها الأبيض في يوم تحريرها من أسر الغاشمين أعداء الحياة.

ولأنها مدينة الحياة بامتياز عبر كُل العصور لم تهزِم روحها الرايات السود، فسرعان ما عادت يمامات درنة إلى نخيلها الباسق وعاد طوق الياسمين يستقبل أحبابها على أبواب بيوتها وأسواقها ومسارحها ومنتدياتها الثقافية، ولتعلو حناجر أطفالها في كُل صباح تغنّي "درنة يا جنّة الأزهار" ولتستعيد بناتها المتألقات تلك الضحكات البريئة أمام مدرسة "الزهراء" وليفوح النعناع من سوانيها اليانعة يغمر شذاه شارع "حشيشة" وشارع "الأسطى" ليضيء شارع "الفنار" على هدرزات النساء في المساء ويعتلي الكهول مصطبة "الصرواحي" في سيرة درنة القديمة التي عبرت الأزمنة بأفئدة الذكريات والحنين الدائم لعشيّات سوق الظلام حيث نداء الدلّالات وبائعات المسك والزهر والعنبر، وحيث ابتسامات عمّنا "مصطفى الطرابلسي" بوجهه العريض الباسم وهو يخيط القماش في سوق الظلام كما يخيط الكلمات في مسارح درنة.

عاد ماء الزهر يفوح من جديد على عتبات البيوت، وشقيقات الحياة المبتهجات يطللن من الشبابيك على رقصة الطفلات تحت داليات الأزقة، وفي تلك الشرفة العالية المزدانة بعناقيد الياسمين كانت مجرودة "مصطفى البتير" تأخذ مداها في الهواء المسروح تمضي إلى مسامع العاشقين في مساء درنة الفن والجمال.

اعتدنا المرور بها في كل مرة، وكان الحنين يسبق خُطانا إلى أماكن الصبا والجيران الذين كبروا مبتسمين، يمسحون عن أكبادنا دراه الأيام العصيّة، ولنعود من بهجتنا وقد امتلأنا بالحياة والذكريات.. وكان من الصعب أن نفلت من أسر الحُب الدرناوي حتى نقسم بأغلظ الأيمان لفك أسرنا الجميل، ومازلتُ هُناك أذكر تلك المساءات في شقة "سالم بن زابيه" نفتح الشبابيك على البحر وهو يعزف على العود يغنّي لدرنة، وما أشهى طعام قرينته الذي لا يقل مذاقاً لذيذاً عن طعام قرينة "مصطفى البتير".. كان لي في كل بيتٍ درناوي حبيب خفتُ عليه قبل الخوف من غدر السنين، فتذكّرتُ كرم بيوت الأصدقاء التي دخلتها حبيباً في سنوات درنة البهيجة، القاص ميلاد الحصادي والمصرفي عاشور القزيري والرياضي مصطفى الجربي والصحفي ناصر الدعيسي والشعراء على الخرم وعبد الحميد بطاو وأحمد بللو، وغيرهم من الأحباب الكرماء.. وتذكّرتُ بيت "الباح" الكبير وزيارتي له عام 1972 برفقة الصديق الفنّان الراحل "عبد الحميد الباح" وهي المرة الأولى التي أصحو فيها على عبق الياسمين في الدار الكبيرة المفتوحة على السانية، وتناول الإفطار عسلاً وبيضاً وطنياً وعنباً ورماناً وتيناً ناضجاً.. وقبل أن نغادر أزهار درنة مررنا ببيت عمّي "علي الهنداوي" القديم بحي الجبيلة حيث أقمتُ فيه فترات من حياتي في الستينيّات بين عائلات بوزيد والساقزلي وبوعرقوب، وهو البيت الذي نشأت فيه من أحببت بعد ذلك وكانت زوجتي فيما بعد.

في درنة لابدّ لك أن تُحب، وأن تشعر بهذا الحُب يسري في بدنك ويغمرك بالحنان، حتى النوم في درنة كان أرجوحة أحلام، والحياة بين أهلها دلالا في دلال، يحبّونك حدّ الخجل وكأنك بهم تحيا وتعيش، وبمغادرتهم تشعر بأنك تركتَ شيئاً جميلاً هناك ولابدّ لك من العودة إليه.. وعلى طول طريق العودة إلى بنغازي كانت الأصوات والضحكات في صحبتي لا تفارق سمعي ولا تغادر المشاهد الجميلة خيالي، وكأنها فعلاً كانت معي في الطريق ودرنة تبتعد!

كنتُ محظوظاً في الثمانينيات لمرافقتي لمسرح "الماغوط ودريد لحّام" إلى درنة في عرض مسرحية "شقائق النعمان" حيث تألقت الفنّانة "سلمى المصري" في عرضها المميّز وفي احتضانها للدرناويات على مدخل سوق الظلام وساحة فندق الجبل.. كما كنتُ سعيداً بعد ذلك في مرافقة "مارسيل خليفة" لإحياء حفله الغنائي على مسرحها الصيفي صحبة "أميمة الخليل" وفرقة الميادين اللبنانية..

كانت درنة عنواناً حضارياً لليبيا، وكان شلّالها وشوارعها القديمة مزاراً للفنّانين والمثقفين العرب الذين بمجرّد استقبالنا لهم في بنغازي أو طرابلس يسألون عن درنة، فيكون لزاماً علينا ترتيب الزيارة لها لنسعد مع ضيوفنا باستقبالات الحُب الكبير من أهلها ومثقّفيها.. واليوم ماذا عسانا نقول لضيوفنا -إن جاءوا- وسألونا عن درنة..؟!