Atwasat

... الله على أيام زمان!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 26 سبتمبر 2023, 03:20 مساء
أحمد الفيتوري

لهولدرلن الشاعر رأي آخر: لكن حيث يكون الخطر، تنمو قدرة الإنقاذ أيضاً.

تمثلت هذه العبارة النافذة، حين شاهدت في ليبيا وخاصة بمدينة درنة، ملحمة مواجهة إعصار دانيال العاتي، لقد شاهدت أن البشر عند الخطر بشر وحسب، الفروق تتوفر وتحدث عند الدعة، وعند العجز حيث يكون كل أحد أحدا، يتشبث بلحيته كي لا يغرق. لكن الخطر يحفز القدرة، التي بدورها تمارس الإنقاذ، الذي ساعتها يعني الدفاع عن الحياة، حيث موت بشري كأنه فناء البشرية. إذا وجدت هولدرلن الشاعر الألماني المعين ساعة ضيق حالنا النبي دانيال، فغاب الأفق والدال والمدلول من ثمة.

انتشلني صديقي وهو يغادر سيارتي، بترديده مقطعاً من أغنية للمطرب محمد عبدالوهاب: أنا من ضيع في الأوهام عمره، وهي جملة شعرية، في قصيدة الجندول للشاعر علي محمود طه. لما غادرته وجدتني أتذكر، ما أردد في أحيان عدة: أجمل ما في الحياة أن أوهامنا معنا، للشاعر مفتاح العماري. صديقي مع وهن الشيخوخة، أدرك أنه وقع في فخ، ما أطلق عليه فلاسفة ما بعد الحداثة، خيبة السرديات الكبرى! وبات يشعر أنه يعيش في هذه اللحظة الاستثنائية حالة الحداثة السائبة، كما يسمي الفيلسوف الإنجليزي زيجمونت باومان، عالم اليوم الزومبي/ الحي الميت. وموت السرديات الكبرى أو على الأقل فشلها، جعل الصديق، عند شيخوخته، ينظر إلى خلف بأسف، وينظر إلى واقع الحال بالخيبة.

صديقي يلتفت في شيخوخته إلى محيطه، فيرى الحياة حروباً، والحروب أهلية، ويرى النزعات حول لا شيء، أو بدواعٍ مزرية، وأن التنازع بين البشر محموله فارغ، لا يضاهي أبداً ما عاشه. ولعل هذا ما يجعله يردد، ما يراه فلاسفة ما بعد الحداثة، بموت الإنسان. أما عندما ينظر إلى شبابه الأول، فيجد أنه كان متمرداً وبقوة وفعل، منذ مراهقته، ضد كبار في السياسة، أو ضد مجتمع له راوسخ وثوابت واضحة كالشمس. وأنه كان يفلسف تمرده، سوى جلس في مقعد «على مقهى الوجودية»، أو كان ماركسياً يرتدي قبعة تشي جيفارا، وفي الحالين كان يرقص مع «الخنافس»، محتجاً ضد بتهوفن وموزارت، مردداً «احنا والقمر جيران»، مع فيروز والرحابنة في مسرح بيكاديلي.

كيف صارت الوجودية، فكر صديقي، في مقتبل عمره؟ سارة بكويل في كتابها الشيق «على مقهى الوجودية- الحرية والوجود وكوكتيلات المشمش» ترجمة حسام نايل، تحاول أن تجيب في أكثر من 400 صفحة من الحجم الكبير، وهي تعتبر أن سارتر هو مبتدع الوجودية، وأن «الفلاسفة قبل سارتر، كانوا يكتبون من خلال فرضيات وحجج دقيقة صارمة، أما سارتر فكتب ما يكتب الروائي، وليس هذا بمستغرب لأنه كان روائياً. كتب عن الأحاسيس الجسدية نحو العالم، والأبنية، وعن أمزجة الحياة البشرية، في رواياته وقصصه القصيرة ومسرحياته، وفي أطروحاته الفلسفية أيضاً. وكتب في المقام الأول، عن موضوع كبير: ما الذي يعنيه أن تكون حراً؟ تقع الحرية عند سارتر، في قلب أية تجربة بشرية، فهي التي تميز البشر، عن كل الكائنات الأخرى».

الحرية مبتغى صديقي، ولذا دخل في محاورات شاقة وشيقة ضد أصدقائه اليساريين غير الوجوديين، فالماركسية عنده فلسفة دولة وليست فلسفة حرية. وحينها كل منهم عند نفسه، حامل فلسفة ومتشيع لها، ولمجلة عربية، تنشر ما يصبو إليه تأليفاً عربياً أو ترجمة، وبيروت عاصمة الجميع عندئذ. وفي تقديرهم أن العالم واحد، وإن منقسم، فتحرير سايجون وفلسطين موحد الأغلبية. ومن هذا كانوا حينها مع شباب العالم منتفضين، ناظرين إلى الخلف بغضب، معتقدين أن غداً يبدأ اليوم، فهم كفيلون بتغيير العالم.
الحقيقة، التي لم يقبل بها صديقي، في شيخوخته:أنهم فعلا غيروا العالم!.

نعم لم يعد العالم ما تمردوا عليه، كل شيء تغير، لدرجة تجاوزت أحلامهم، لقد تحققت إرادتهم ولكن ليس أحلامهم. فالعلم ما جعلوه وثن الحداثة، تجاوز توقعاتهم، والحرب الكبرى الأوروبية الثانية أنهاها العلم بالذرة، فأنتج توازن الرعب والحرب الباردة، وتحت طائلة هذا التوازن/ الرعب البارد، غيروا العالم. ما جعل فلاسفة ما بعد الحداثة، يرجعون المأساة إلى السرديات الكبرى القومية والأممية. وعلى مقهى العالم، لم يعد من جدوى، لوجودية وماركسية وغيرهما، وبالتالي لا جدوى أن تكتب ما جدوى الكتابة، فلقد غدت الفلسفة ترجع البلاء إلى نفسها.
مرة ثانية، الحقيقة، التي لم يقبل بها صديقي، في شيخوخته: أنهم فعلاً غيروا العالم. وما تمردوا به على العالم قام بالمهة، ولم يعد سارتر أو ماركس أنبياء ما بعد الحداثة، حيث لم يبق من الحرب الباردة إلا توازن الرعب، ما كشف أن لا توازن للرعب، وأن القطب الواحد كالقطبين أو حتى أكثر، فالحرب الأوروبية الكبرى الأولى، اندلعت في زمن الأقطاب.