Atwasat

المثقف القلق ضد مثقف اليقين

إبراهيم حميدان الخميس 21 سبتمبر 2023, 11:30 صباحا
إبراهيم حميدان

المثقف ودوره في المجتمع سؤال يتجدد باستمرار، وتصدر حوله الكتب، وتقام الندوات والمؤتمرات وتُعدّ الرسائل العلمية في الجامعات، وهو ما يعكس حيوية وأهمية هذا الموضوع الذي يرتبط بالأوضاع التاريخية والسياسية والاجتماعية، فلايمكن مناقشة مثل هذا الموضوع خارج هذه السياقات. وربما لهذا السبب يتجدد طرح هذا الموضوع في كل مرحلة تاريخية.

من هو المثقف؟ ماهو دور المثقف؟ ما الفرق بين المثقف والمتعلم؟ ما الفرق بين المثقف والمفكر؟ ما الفرق بين المثقف والفيلسوف؟
ما الفرق بين "المثقف العضوي" و "المثقف الناقد"؟
وما الفرق بين "المثقف القلق" و "المثقف اليقيني"؟
هذه الأسئلة وغيرها هي محاور هذا الكتاب الذي حمل عنوان "المثقف القلق ضد مثقف اليقين"(1) للباحث والأكاديمي الفلسطيني خالد الحروب .
توزعت مقاربات الكتاب إلى قسمين، الأول مفاهيمي وتنظيري، والثاني مقاربات وسجالات نقدية في موضوعات فكرية مختلفة.
من "المثقف العضوي" إلى "المثقف الناقد"

ما يقصده الكاتب بالمثقف هنا هو المثقف العربي ، فالمثقف هو ذلك المنشغل بصناعة الأفكار ويمتلك الحد المعقول من الفكر والثقافة والمعرفة العميقة، ويُسخِّر تلك المعرفة في الاهتمام بالشأن العام، والانخراط فيه.
ويرى المؤلف أن هناك ثلاثة مكونات تساعد على استكناه فضاءات تعريفية للمثقف وهي: "الرؤيوية"، أي امتلاك المثقف رؤية طليعية تحدد الاختلالات في المجتمع أو المحيط أو حتى العالم وتحدد مسارات معالجتها بل تقديم الحلول لها. المكون الثاني هو "التغييرية" التي تأخذ الرؤيوية شوطا أبعد، وتحديدا باتجاه الرغبة في التغيير والانخراط فيه. وهنا يكمن الفرق بين الفيلسوف والمثقف، ففي حين يسعى المثقف إلى تغيير المجتمع يكتفي الفيلسوف وكذلك المفكر عند حد فهم العالم ومحاولة إدراكه.

المكون الثالث بعد الرؤيوية والتغييرية هو "سقف التوقعات" من قبل المجتمع المحيط بهذا المثقف. إذ غالبا ما ينتظر الناس من المثقف دورا مركزيا في عملية التغيير، بخلاف نظرتهم للفيلسوف والمفكر.
هذه السمات الثلاث نراها بشكل أو بآخر تنطبق على المثقفين العرب منذ جيل عصر النهضة وحتى الآن باختلاف توجهاتهم السياسية والايديولوجية: القوميون والليبراليون والماركسيون والإسلاميون.

يتطرق المؤلف إلى المثقف الاجتماعي، وهو المثقف المنشغل بقضايا الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ويندرج ضمن هذه الفئة من المثقفين من أطلق عليهم انتونيو غرامشي الثوري والمنظر الماركسي الذي كافح الفاشية في ثلاثينيات القرن الماضي مصطلح "المثقف العضوي" وهو المثقف الذي ينتمي إلى طبقة اجتماعية أو اقتصادية معينة ويتصدى على الدوام للدفاع عن مصالح تلك الطبقة ويوائم خطابه لخدمتها، مناضلا ضد الهيمنة والاستغلال اللذين تتعرض لهما.

وقد ساد هذا المفهوم منذ الثلاثينيات وحتى فترة قريبة، إذ نظرت شريحة كبيرة من المثقفين العرب إلى نفسهم باعتبارهم ينتمون إلى هذه الفئة ذات الدور الاجتماعي التغييري، فهذا المثقف يقف إلى جانب شعبه ، مجتمعه، ضد كل السلطات المتغولة على هذا المجتمع سواء كانت سلطات أجنبية استعمارية أو سلطات محلية استبدادية. هو مثقف منحاز إلى شعبه، مجتمعه، ضد الآخر، المحتل أو المستبد.

" المثقف الغرامشي" كما يقول المؤلف ينظر إلى نفسه على كونه يخوض حربا "سياسية وفكرية" ضد الخارج مدافعا عن مجتمعه المحلي بكل ما أوتي من قوة. وهو هنا في سياق دفاعه المحموم يتنازل عن عنصر النقد الذاتي البناء الذي يساعد في تصحيح تعثر مجتمعه الأساسي. وبدلا من ذلك فإنه يسلك الطريق الأسهل في تقويم الاختلالات والتخلف التي يمر بها مجتمعه وهو إلقاء اللوم على الخارج.

ولاينكر المؤلف دور الخارج في تخلف المجتمعات العربية والعالمثالثية سواء في الحقبة العسكرية الاستعمارية أو المرحلة التي تبعتها من تحكم الدول الاستعمارية بشكل غير مباشر والذي مازال حتى الآن، لكن هذا لاينبغي أن يحول دون الالتفات إلى الذات ونقدها.
التحولات التي ظلت تطرأ على مفهوم المثقف العضوي شوهت الدور والمفهوم النبيل الذي اشتمل عليه في الفهم والتعريف الأولي الذي طرحه غرامشي لهذا المثقف، خاصة إزاء ضمور مكون النقد الذاتي وتضخم مكون الدفاع المستميت والأعمى عن الجماعة أو الفكرة أو الأيديولوجيا. هذه التشوهات أدت إلى ظهور الفئة الثانية من المثقفين الذي يسميه المؤلف "مثقف اليقين"، وهو المثقف التابع بشكل مطلق أو شبه مطلق للطبقة التي يمنحها ولاءه التي قد تكون السلطة الحاكمة أو الطائفة الدينية أو العقيدة الأيديولوجية، أوالحزب السياسي أو الفئة الاجتماعية أوالإثنية التي ينتمي إليها، ويقوم بالدفاع المستميت عن جماعته وتبرير فكرها وثقافتها حتى لو أصابها الجمود والعنصرية، ويدافع عن سلوكياتها حتى لو ظلمت الآخرين، أو تضمنت تلك السلوكيات جرائم لاجدال فيها، وكأن جماعته مبرأة من العيوب، وهو لايقتصر على تيار معين فقد يكون ماركسيا أو إسلاميا، أو ليبراليا أو قوميا عروبيا.

ومن ضمن هذا النوع من المثقفين "مثقف القطيع" وهو ذلك الذي يقف مع الثقافة السائدة، ومع المزاج العام، ويشتغل على تعميق ومأسسة الجهل وتجميله وتصنيمه. وهو التعبير الأقصى والأبشع لمثقف السلطة. فهذا الأخير مكشوفة ممارساته، لكن مثقف القطيع يتدثر بحماية القطيع، بقيمه المعوجة، بانحرافاته، وبدلا من تفكيك الثقافة السائدة يتواطأ معها ويتحالف مع دعاتها.

ينتقل المؤلف إثر ذلك إلى فئة أخرى من المثقفين وهي فئة "المثقف الناقد" الذي ينتمي إلى مرحلة أخرى في التاريخ العربي والعالمثالثي، مرحلة، مابعد دولة الاستقلال التي فشلت بعد عقود من تحقيق الاستقلال لبلدانها في أن تحقق التنمية لبلدانها والحرية لشعوبها والكرامة لمواطنيها وبدلا من ذلك وأدت الحريات ودمرت بلدانها ورهنتها إلى قوى أجنبية تدعم تلك النخب الحاكمة، وساد الاستبداد وعم الفساد في أجهزة تلك الدول. هذه المرحلة شكلت صعود "المثقف الناقد" الذي يتسلح بالابستمولوجيا على حساب الأيديولوجيا. المثقف الناقد لايعرف إلا النقد ومن منظوره يتعامل ويتضامن مع القضايا، ومن هنا التوكيد العميق للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد "لاتضامن بدون نقد" أي أن المثقف حين يُحجم عن نقد ذاته ومجتمعه ومحيطه، يخون فكره وقناعاته. المثقف الناقد صاحب مغامرة فكرية وتغييرية يفكر في اللامفكر فيه ويتحدث عن اللامتحدث عنه.

المثقف القلِق والمُقلق
على خلاف "المثقف اليقيني" الذي يدعي امتلاك الأجوبة، يشتغل المثقف القلِق، كما يقول المؤلف،على مساءلة اليقينيات. وعبر انخراطه المهجوس مع الأسئلة، فإن "المثقف القلِق" يعمل بوعي أم من دونه على دفع المقاربات الاجتماعية والسياسية والثقافية في مجتمعه إلى آفاق جديدة، ويساهم جذريا في عقلنه الخطابات والممارسات، وموضعتها في موقع ريادي وتأثيري.

يعتبر المؤلف أن "المثقف القلِق" مرحلة متقدمة وتكميلية لـ " المثقف الناقد"، فهذا الأخير لا يكتفي عادة بمهمته النقدية ويعمل على تقديم بدائل ويقترح حلولا تنطوي في حد ذاتها على قدر من اليقينية، إذ ينافح "المثقف الناقد" على البديل الذي يُروج له بيقينية قريبة من الأدلجة. وهذه نقطة الافتراق الأساسي مع "المثقف القلق". نقطة الافتراق الثانية تتعلق بتفاقم درجة ثقة "المثقف الناقد" بنفسه وبأفكاره، وتجاوزها نقده لذاته. وهذا ما يقود إلى "الذات المتمركزة".

تأسيسا على ماسبق يضيف الكاتب أن "المثقف القلق" هو التمثّل الأكثر نضجا للمثقف الناقد، فهو من ناحية امتداد له في منهجية النقد والتفكيك والتقويض، لكنه يختلف عنه باتصافه بسمتين أساسيتين: اللايقين واللا تمركز، اللايقين يعني عدم التمسك الصارم بالأفكار والقناعات التي يطرحها هو نفسه، وعدم التمسك الصارم بنقده الذي يوجهه لأفكاره وقناعات غيره. عدم التمسك الصارم واللايقين، يُبقيان أبواب المراجعة والتأمل وتغيير الأفكار والقناعات مفتوحة دائما. ويتجلى ذلك باستناده إلى فكرتين أساسيتين: "اللاأدرية" و "التناقض". اللاأدرية تُعلي من شأن القلق وذلك على الضد من اليقين، فالقلق وديمومة الحيرة والتساؤل هو ما يفضي إلى ديمومة تشعب الأفكار وغناها وتوالدها الدائم.

الفكرة الثانية هي "التناقض" وتعني أن الإقرار بالتناقض بين المنظومات القيمية والأفكار والأشياء من جهة، ومعه التناقض داخل بنية كل منظومة من تلك المنظومات والأفكار هو الأصل، على عكس ماينزع أو يظن أو يتمنى كثير من البشر من حلول الانسجام والتماهي بين المتناقضات والمختلفات.

ينتقل المؤلف إثر ذلك إلى مساهمة "المثقف القلق" في توليد "الطبقة الوسطى الثقافية" التي تشتغل فيها مكونات القلق مثل اللاتمركز وعدم الوقوع في الأيديولوجيات الخلاصية أو السرديات الكبرى. تتسم قيم الطبقة الوسطى الثقافية، كما يقول المؤلف في هذا الفصل الذي اتسم بالطابع التأملي النظري، بسيادة قيم التعايش والتعددية والاحترام المُتبادل بين الجميع والإقرار بحرية تفكيرهم وسلوكياتهم، رغم رفضها وعدم الاقتناع بها.

ولتوضيح مفهوم "الطبقة الوسطى الثقافية" يطرح المؤلف نقيضها وهو "الاستقطاب الثقافي" فعندما يقع المجتمع فريسة الاستقطاب الثقافي الحاد (الإسلاموي والعلماني، أو المدني والعسكري، أو الديني والطائفي، وسوى ذلك) فإن مساحة "الطبقة الوسطى الثقافية" تختفي لمصلحة الأضداد المتناقضة والمتعاركة، وتتوالى الانشقاقات الطولية بحسب الأيديولوجيات والطوائف والولاءات القبلية والجهوية وغيرها لتكون هي السمة الأبرز للمجتمع.
ويقارن الكاتب "الطبقة الوسطى الثقافية " بالطبقة الوسطى بالمفهوم الاقتصادي التي يُشكل وجودها واتساعها وعمقها في أي مجتمع من المجتمعات الحامل الأهم للسياسة والتنمية والديمقراطية.

من دون «طبقة وسطى» اقتصادية قوية وواسعة وتشمل غالبية المواطنين، تتقارب فيها الدخول وتتشابه الهموم والقضايا والاهتمامات، فإن المجتمع ينحدر إلى انقسام مريع بين هوامش طرفيّة فاحشة الثراء، وغالبية كاسحة بالغة الفقر، تفصلهما عن بعض فجوة هائلة، وهذه الفجوة هي التي تحتلها «الطبقة الوسطى» وقوّتهما واتّساعهما، أو غيابهما، يعكسان درجة نجاح النظام السياسي والاقتصادي في توزيع الثروة الوطنية وتحقيق العدالة الاجتماعية، أو عدمه. وقد اعتبر كثير من المنظرين وجود هذه الطبقة واتساعها وتعمّقها شرطا أوليا لتحقق الديمقراطية أو أي انفتاح سياسي تعددي.

ويطرح الكاتب سؤالا حول كفاية شرط «الطبقة الوسطى الاقتصادية» لقيام أنظمة سياسية تشاركية وتعددية وديمقراطية في البلدان العربية، أم من الضروري وجود شروط أخرى ملازمة لذلك الشرط، لا تقل أهمية عنه في الحالة العربية؟

ويضيف أن ماتطرحه مقاربته هنا هو المغامرة بالقول إنّ هناك شرطا آخر لا يقل أهمية للانتقال من الحقب الاستبدادية نحو أي شكل سياسي تعددي وتشاركي، وهو قيام وتوسيع «الطبقة الوسطى الثقافية» وتعميقها" .
القسم الثاني من الكتاب حمل عنوان "مقاربات وقضايا قلقة" وتضمن مقالات محورها المثقف وتحولاته، وجاءت عناوين فصوله على النحو التالي: "المثقف محاصرا ومتهما" ،"في المثقفين وسجالات القلق"، "في الاستشراق والخصوصية الثقافية"،" في الإسلاموية وتحولاتها وإشكالاتها"، في العلمانية والليبرالية والليبراليين"، "الإبادة الأرمنية المحرقة اليهودية"، " قداسة التاريخ والفلسفة"، "الداعشيات الدينية والحداثية"، "زمن القيعان المتلاحقة... أين القاع الحقيقي".

الكتاب في قسميه التأملي المفاهيمي أو النقدي التطبيقي، دعوة إلى تبني فكرة الابتعاد عن التصلب الفكري والخروج من ثنائية الأبيض والأسود في مناقشة قضايانا ومشكلات مجتمعاتنا ومحاولاتنا لتقديم الحلول لها، فلا يوجد شيء اسمه حل نهائي وجذري للقضايا والمشكلات، فلا يقينية فيما يطرحه الكتاب من أفكار وتأملات قلقة قابلة للنقاش والتطوير، والمثقف القلق هو ابن هذا العصر ومشكلاته، هو مدفوع بحس التساؤل دائما، وفي تاريخ المجتمعات، كان القلق مبعث الإبداع، بينما كانت الإجابات النهائية والقاطعة تقود إلى الكسل والاسترخاء وبالتالي الجمود بكافة أشكاله.
-------
خالد الحروب، المثقف القلق ضد مثقف اليقين، الأهلية للنشر والتوزيع،عمان، 2018