Atwasat

كارثة الحادي عشر من سبتمبر في درنة

سالم العوكلي الثلاثاء 19 سبتمبر 2023, 09:33 صباحا
سالم العوكلي

درنة التي نعرفها تلاشت، ملامحها تبدلت إلى الأبد، معالمها من وجوه ناس وسط البلد، ومن أشهر العائلات التي تسكن على ضفتي الوادي، الشلال، مقبرة الصحابة، مقهى النجمة، العمارات على ضفة الوادي الغربية وما أمامها من أشجار عتيقة. ومن التقط صورة لدرنة يوم العاشر من سبتمبر 2023، أصبحت صوراً تاريخية يوم الحادي عشر من سبتمبر وكأنها التقطت لمدينة قبل قرون. ورغم كل شيء سنظل نتذكر الوجوه التي غابت بالآلاف وسنظل نأمل أن يعاد الإعمار بوجه جديد ليس الوجه الذي نعرفه، لكن كل جديد سيكون بيئة أطفال المستقبل التي يصنعون فيها ذكرياتهم، بعد أن غابت معالم ومواطن ذكريات من غابوا ومن نجوا.

لغط كثير يحيط بكل ما جرى، وضجيج إعلامي منفعل يتيه عن المعلومة وعن الحقيقة، وقنوات تستقبل ضيوفاً يتحدثون عن كارثة لا يعرفون أسبابها الحقيقة ولا ماذا حدث بالضبط، ويخلطون الحابل بالنابل، البعض يصطاد في ماء الكارثة العكر ويستغلها لتصفية حساب مع خصم، سلطات متصارعة تحاول أن تستخدم هذه الكارثة الكونية ورقة سياسية لضرب بعضها البعض، واتهامات تُلقى جزافاً، وساسة يستثمرون المصيبة التي حاقت بدرنة لدعاية انتخابية مستقبلاً. لكن لحسن الحظ هؤلاء قلة وسُحب البساط من تحت أرجلهم بعد أن تنادى (الناس العاديون) من كل مدن وقرى ليبيا في فزعة لإخوانهم المنكوبين، ملقية بقذارات الساسة التي فرقت الليبيين خلف ظهورهم، ليثبتوا لهم أنكم ربما نجحتم في تفريقنا لزمن بما أثرتموه من فتن غذاها إعلامكم المأجور وقنواتكم القذرة وشياطين مواقع التواصل ومفتي الديار وأمراء الحرب المريضون، لكن أمام هذا التلاحم التاريخي بين كل مناطق ليبيا في فزعة سيسجلها التاريخ، نوقن من تلك القيم السامية الكامنة، وندرك أن الحنان والتراحم متأصل في شعب تحاول كل الأجندات أن تفرقه، وأن ما يفعله الساسة والمؤدلجون وتجار الدين والمهربون ومثيرو الفتنة مجرد طفح جلدي سيتقشر عند كل مصاب عظيم يلم، فما فرقه الساسة يوحده الألم، ويوحده الأمل بأن تخرج درنة من هذا المحنة، كما خرجت مدن سويت بالأرض، وتستأنف الحياة دون أن تنسى أطياف ضحاياها الذين ستقيم لهم نصباً تذكارياً يخلد أسماءهم، ودون أن تنسى معالم ذكرياتها.

رداً على هذا اللغط، وباعتباري مهندس تربة ومياه، عملت لسنوات في قطاع الزراعة رئيساً لقسم التربة والمياه الذي كانت له علاقة بهذه السدود ـ ولن أزايد على الجيولوجيين في درنة العاملين في الهيئة العامة للمياه الذين معرفتهم أكثر مني، وتحذيراتهم من كارثة يتسبب فيها هذا السد كانوا يعلنونها في كل ندوة وفي كل لقاء واجتماع وكتبوا عنها مراراً تقارير ومقالات ــ لن أزايد عليهم خبرة ومعرفة، لكني سأحاول أن أختصر ما حدث بالضبط ووفق معرفتي لأوضح أن المشكلة بدأت في فكرة إنشاء هذا السد من الأساس ثم في تصميمه وطريقة إنشائه منتصف السبعينيات:

وادي درنة أحد أكبر الأودية في ليبيا يصل طوله إلى 75 كم، وحين يراد تصميم سد لحماية المدينة كما اقتُرح وقتها، ستوجه هندسة هذا السد لحساب مساحة تجميع المياه له بالكيلومتر المربع، وسيعتمد أكبر نسبة لسقوط المطر في هذه المنطقة بعد الرجوع إلى أرشيف الأرصاد الجوية لقرن أو أكثر والتي أكد الأرشيف أن أقصى مستوى لسقوط الأمطار في الجبل الأخضر 350 مليمترا، وبناء على هذه الأرقام صمم السد وقناة تصريف مياهه الفائضة التي تمنع وصول المياه على قمته بحيث تهدد بانهياره، ونجح هذا التصميم لمدة 44 سنة تقريباً عندما كان هطول الأمطار في نطاق الحسابات التي شُيد بناء عليها السدان، حيث تعرض الوادي لحوالي ثلاثة فيضانات امتلأت فيها بحيرتا السد، وما فاض من مياه جرى مع قنوات التصريف.

لكن أين يكمن الخطأ؟ خطورة هذا السد تكمن في كونه مقاماً على بعد 13 كم من مدينة ساحلية آهلة بالسكان، وبالتالي فإن فكرة إنشائه خطرة جداً، وكان يفضل أن لا يُنشأ ويترك الوادي لمجراه الذي حفره منذ آلاف السنين، لأنه في هذه الحالة وحتى بعيداً عن الكوارث الطبيعية قد يكون هدفاً حربياً خطيراً جداً أو أداة لعمل إرهابي. ولكن إذا كان لا بُد من إقامته فيجب أن يراعي التصميم ظروفاً أقصى مما يخزنه الأرشيف، ومن جانب آخر لا يمكن أن ينشأ سد ركامي مبطن بالتراب في واد يشق نصف مدينة مأهولة لأن مثل هذه السدود عرضة لانفجار كلي مفاجيء، وسدود حماية المدن أو الأرياف تنشأ عبر الهياكل المسلحة بقنوات تصريف المياه الجانبية الواسعة، وحتى إذا غمرها الماء أو انهارت تنهار تدريجياً.

وما حصل أن هذا السد الذي أنشيء حسب الحسابات السابقة وصمد لأكثر من أربعة عقود، تعرض لضغط يمثل ضعف هذه الأرقام المسجلة، وهو يحفظ بحيرة خلفه حجمها 21 مليون متر مكعب، صممت قناة تصريف الماء الزائد وفق أقصى ما يمكن أن يستقبله الوادي من مياه وفق الدراسات السابقة. لكن ما حصل مع إعصار دانيال الذي أول مرة يحدث في هذه المنطقة حسب اعتقادي، أن الأمطار وصلت نسبة سقوطها 450 مليمترا خلال أربع ساعات فقط حيث كان مركز الإعصار في جنوب هذا الوادي وفي المنطقة التي تجمع الماء له عبر روافد أودية أخرى، وكما يقول مركز جيولوجي أميركي درس هذا السد بعد الكارثة عن طريق صور الأقمار الصناعية، فإن منطقة التجميع (الكيشميت أريا) جمعت خلال مرور مركز الإعصار في هذه الساعات حوالي 50 مليون متر مكعب، وكل هذه المياه تدفقت بعد انفجار السد الأول صوب السد الأصغر الذي يبعد عن وسط المدينة كيلواً متراً وممتليء بمليون ونصف متر مكعب،  وسمع كل سكان درنة صوت انفجار السد الصغير المرعب، لتنطلق بعده موجة تسونامي بارتفاع 40 متراً وتدخل سهل درنة المنبسط بعد أن اصطدمت في منعطف واجهته الشرقية صخرية (جرف الجبخانة) وتتجه بقوة صوب الضفة الغربية للمدينة ما تسبب في اقتلاع عمارات من ست وسبع طوابق من جذورها، بينما موجة أقل اتجهت إلى الضفة الشرقية التي أضرارها أقل من الضفة الغربية. وكل هذه المياه انسكبت في منخفض درنة الذي مساحته لا تزيد على 8 كيلو مترات مربعة، وبدا الأمر كما تسكب سطلا من المياه في كوب صغير، ما جعل ماء الفيضان يصل إلى ارتفاعات قياسية.

قال أحد أعضاء الكونغرس الأميركي: إن ما حدث في مدينة درنة أسطورة، وشيء يشبه الخرافة. ومبعث قوله كونهم لأول مرة يرون فيضاناً مائياً يقتلع عمارات ضخمة من جذورها ويسير بها نحو البحر، ويرون هياكل مبان وعمارات في قاع البحر بسكانها وسيارات براكبيها. مشهد لم يخطر على خيال مؤلفي ومخرجي السينما التي كم تخيلت سيناريوهات لنهاية العالم.

ما حدث حسب اعتقادي هو أكبر كارثة تحدث في ليبيا طوال التاريخ الذي نعرفه، حيث لم تكن ليبيا منطقة زلازل ولا أعاصير، وحين تتغير ملامح وادٍ مثل وادي الكوف وتقتلع لأول مرة أشجار في سفحه عمرها أكثر من ألف سنة، فهذا يشير إلى أنه لم يحدث مثل هذا الفيضان منذ ألف سنة على الأقل. وكان الحل لتلافي هذه الكارثة هو الإخلاء التام للأحياء الواقعة على البحر (البلاد والجبيلة وامتدادهما) قبل وصول الإعصار، وهذا أمر كان يحتاج إلى معلومات وحملات إعلامية، وإلى دولة مستقرة، لكن الإعلام المحلي متفرغ للأسف لتغذية الصراعات على السلطة والمال، ومشروع الدولة خسف به كل من تصدروا المشهد في هذا العقد الأخير، من سلطات تشريعية وتنفيذية، ووضعوا شعباً برمته لقمة سائغة لأي كارثة تحدث أو جائحة. وما يزعج هو خروج بعض الساسة وهم يتحدثون عن ميزة أن هذه الكارثة وحدت ليبيا التي كانوا السبب في تفرقها وتحولها إلى دولة فاشلة، فهل كان لا بد أن تضحي درنة بربع سكانها وبأرزاق كل معظمهما كي تتوحدوا يا مجرمون.

ما يجب أن يحدث الآن أن يخرج طوفان شعبي يقتلع الطبقة السياسية كلها ومن جذورها، من أعلى المناصب إلى أقلها، فهم من تسبب في الكوارث أو هم من ضاعفوا من ألمها، وهم من يذهبون بليبيا كلها إلى ثقب أسود.

بعد عودة الاتصالات، تواصل معي بعض الأصدقاء للاطمئنان، ولم أستطع أن أقول أني بخير لأني لست بخير على الإطلاق، فجيلنا وكل من عايش هذه الفاجعة سيرحلون عن هذه الدنيا بجرح في الروح لن يندمل، لكن رغبة الاستمرار في الحياة والتشبث بالأمل غرائز إنسانية وجودية لا تفتك بها الكوارث مهما توحشت، وأملنا لجيل جديد لم يعايشها أن يعيش في درنة جديدة تحترم إنسانيتهم، وفي وطن يحترم حقوقهم ويشعرهم بالأمان، بعد أن يتخلصوا من هذه الطبقة السياسية الفاسدة مع ركام ونفايات هذه الفيضان.