Atwasat

تجربتي في أوروبا

منصور بوشناف الأربعاء 23 أغسطس 2023, 08:31 مساء
منصور بوشناف

لم أزر بلداً أوروبياً «إلا مرة واحدة أمضيت خلالها في زيوريخ عشرة أيام» ولم أتعرف بشكل مباشر إلا على بعض الأوروبيين «لا يزيد عددهم على عدد أصابع اليد الواحدة»، ببساطة لم تكن علاقتي بأوروبا إلا علاقة افتراضية» عبر الكتب والموسيقى والسينما، تلك هي أوروبا التي أعرفها، كانت أوروبا كتاباً قرأته وأواصل قراءته وأحفظ بعض فصوله، «شرعت منذ شهور في حفظ جحيم دانتي مأخوذاً بأنوثة ورنين اللغة الإيطالية»، «اللغة الإيطالية تبدو لي كراقصة غجرية تلعب بجسدها وترن خلاخليها».

كنت وأنا في العشرين من عمري قد انشغلت بالبير كامو وسارتر وفرويد وماركس وأرى أوروبا عبر عيونهم وعقولهم، ثم اكتشفت وأنا في الرابعة والعشرين فنون عصر النهضة وحفظت فصول الدراما الإلهية عبر لوحات «مايكل آنجلو» بالتحديد، ثم سحرني «رمبرانت» ومونييه وبراك لأصل إلى «بيكاسو» لأدمنه. كل ذلك وأنا لم أر مشهداً أوروبياً واحداً على الطبيعة ولم أتحدث أو أسمع صوتاً أوروبياً إلا عبر الراديو أو السينما أو التلفزيون، لم أركب طائرة ولم أر قطاراً ولم أر نهراً إلا وأنا في الخامسة والثلاثين من عمري.

كل أوروبا كانت شيئاً افتراضياً بالنسبة لي. كنت وما زلت في الكهف الليبي، أتابع رقص الظلال على جدران الكهف وأتراقص لاكتواء قدمي بصهد الرمل الليبي الملتهب. وحين أرحل أتبع طريق أسلافي العطشى إلى تونس أو مصر. وصلت كما وصلوا إلى المغرب والشام وحللت «بتمبكتو» ولم أفكر في الذهاب شمالاً إلى أوروبا «نجمتي» ودليلي الافتراضية.

أوروبا التي لم أزرها ولم أقابل إلا القليل من أهلها، وظلت بالنسبة لي أشبه بنجمة لسائر في الصحراء، أهتدي بها للوصول إلى بلد لي ولا تحده أوروبا، لا بل لم أكن إلا باحثاً عبر الصحراء عن بلده التي حجبها الظلام والرمل مهتدياً بأنوار أوروبا.

أوروبا التي لم أرها إلا في السينما واللوحات والتلفزيون قادتني نجمتها عبر الصحراء إلى متاحف الأكاكوس بالجنوب الليبي، وإلى أهرامات الحطية ومسلات بني وليد، وقادني شكسبير وبيرانديللو ثم تينيسي وليامز وآرثر ميللر وتشيخوف إلى مسرح محمد عبدالهادي ومحمد شرف الدين ومصطفى الأمير.

هيردوت وأوفيد وهوميروس كانوا دليلي عبر غابات الجبل الأخضر وحورياته الفاتنات.

لقد كنت أسير مقاداً ومستكشفاً بلدي كما يقودنا الآن جوجل الأوروبي إلى موقع صغير وبعيد في مدينتنا، كانت الأنوار الأوروبية منير طريقي لاكتشاف بيتي أو وطني.
أوروبا التي لم أزرها ولم أرها ولم أتعرف إلا على القليل من أهلها، عرفت أيضاً ظلامها وقهرها وعبوديتها لأسلافي وإبادتها لملايين البشر وسلب خيراتهم وقوداً لقناديل أنوارها، فقد أنتجت أنوارها أيضاً معامل ومصانع وأساطيل العبودية والإبادة الجماعية.

العقل الأوروبي الصارم ومناهج البحث المتطورة وقيم الحرية والعدالة والمساواة أنجبت النازية والتمييز العنصري.

أوروبا التي لم أزرها ولم أتعرف على أهلها بشكل مباشر ليست ولم تكن كتلة واحدة من التنوير والحرية والعلوم، بل كانت ولا زالت أيضاً مصدراً للهيمنة والعبودية الحديثة.

ربما عدم معرفتي المباشرة بأوروبا أوصلتني إلى هذه القناعات، وربما أوروبا الآن لم تعد أوروبا الاستعمارية، ولم تعد أيضاً أوروبا التنوير والحرية والإخاء والمساواة.