Atwasat

السطحية والعمق: حكمٌ بديل

عبد الكافي المغربي الإثنين 21 أغسطس 2023, 04:21 مساء
عبد الكافي المغربي

استندت طريقة سائدة إذ يصادفها منتج الفكر وثمرة الإبداع، في الانتقاص من جدوى وقيمة أعمال معينة، على ما تلمس من سطحية فجة ممجوجة، بيد أن هذه الطريقة التقييمية شرع الجفاف الثقافي يذرو غبار النسيان عليها، ووجدت ما يمكن أن تكون أدعى ألوان السطحية للاستنكار مكانًا في أكبر وسائل التأثير من صحافة ويوتيوب؛ بل والمساهمة القصصية. في العصر الذي يستغنى فيه عن التفريق بين القالبين اللذين يصب فيهما الفكر الإنساني تستجد مناسبة لإعادة النظر في التمييز، ولإقرار إذا كان ثمة ما يدعو لرثاء العمق، من منطلق أيديولوجي.

لن أتطرق هنا لصعود السطحية استجابة لمطالب السوق الذي يعكس ما يشبه اضمحلالًا في الذائقة في قبول العمل الأدبي مثلًا، وإنما أريد التوصل إلى حكم في جدوى التمييز، في وقت تتفاعل فيه عوامل عدة في تحديد نجاح شكل معين من الكتابة في الحصول على تأثير محدد، دائمًا من زاوية تعطي الأيديولوجيا القدر الذي هي خليقة به من الاهتمام من حيث كونها فيضًا دافقًا يغمر الثقافة ويطغى على الواقع المعاش.

نعم، هو فيض. فليس ثمة مكان خارج الأيديولوجيا، الانسلاخ عنها هو بمثابة امتناع عن الكينونة، حين تتأسس الكينونة في المجتمع الإنساني على قاعدة اللغة. فمن ماركسية فرنسية متشككة، إلى الفلسفة المتجاوزة للبنيوية، الأيديولوجيا الطاقة القادرة على كبح جماح التطلعات الثورية، بتسربها المختلس إلى أعماق الوعي، لكنها أيضًا صيرورة الأمل ضد كينونة اللحظة المأسوف عليها، بفضل سيولة الأيديولوجيا وإمكانية انقلاب معالمها لتغدو فضاءً أكثر انفتاحًا.

تعترف الماركسية الغربية، المتشائمة والأخرى الأكثر اصطبارًا، في التفاتها المُحدَث إلى البناء الثقافي الأعلى (Superstructure) وإلى مبدأ الأيديولوجيا الحاكم، بأهمية التعرض للفن الرائج في السينما والصحافة بالنقد الثقافي. السطحي هو نبض الشعب، ولا فهم لروح العصر، كلا ولا أمل باستنهاض الهمة الثورية، ما لم يحظَ السطحي بالدراسة الدقيقة. على النحو الذي تصبح الفلسفة فيه أدبًا، والأدب فلسفة، والفيلم ظاهرة ثقافية معقدة، التضخم المعرفي، شاهد منجزنا الثقافي والعلمي، يُحصِّل القيمة ذاتها للفنون الشعبية في استعداده وقابليته للتفسير النقدي الهادف إلى تجاوز الحاضر المثير للقلق إلى غد أكثر إنصافًا.

إن واحدًا من أعمال علاء الأسواني، وآخر مقابل لنجيب محفوظ، سيفترقان ـ لا شك ـ في درجة العمق، لكن تأديتهما لخدمة أيديولوجية مواتية للأنظمة السلطوية في حقبتين مختلفتين في مصر لا لبس فيها، في تأكيدهما على ظلمة قلب المثليين، مثلًا، وإطلالة خصمهم المشرقة.

وفيما يبقى تطلعي للعميق مضمونًا والرشيق نصًا أكيدًا مؤمنًا، ربما أفيد برغم تخيُّري للعناوين، باستيعاب ما هو دون التطلع في استخراج أيديولوجيا منافسة لهذا الطغيان المفجع للفساد الفكري في المشرق. ربما أكون مدينًا لإبراهيم الكوني ومنصور بوشناف بأوقات مثمرة مع إنسانيتهما الشعرية، بيد أن خبزًا على طاولة الخال ميلاد يظل احتجاجًا ذا ثقل.