Atwasat

المرآة والسيرة الذاتية

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 20 أغسطس 2023, 02:50 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

عندما أكبَّ نرجس، في الأسطورة اليونانية المعروفة، على البركة، أو البحيرة، ليشرب وشاهد، لأول مرة، صورته منعكسة في المياه، هام بنفسه حبًا، وظل هناك لا يأكل ولا يفعل شيئًا إلى أن مات، فنبتت في مكانه زهرة نرجس. لقد جعلته «مرآة» الماء يتعرف إلى نفسه ويكتشفها ويولع بها.

من هنا ظهرت فكرة المرآة، فقبل تعرف الإنسان على شكله في السطوح العاكسة، طبيعية كانت أو صناعية، كان يرى الآخرين فقط، وكان يراقب، عبر السنين، ما يطرأ على بناهم الجسدية من تبدلات وعلى وجوههم من تغضنات، ويشاهدهم يتجهون نحو الشيخوخة، ويلمس ما يعتري حواسهم من ضعف، ويرى جذوعهم تنحني، وإجمالًا يسيرون نحو الموت.

وبتمكن الإنسان من قيامه بصناعة سطوح (= مرايا) عاكسة يتمرأى فيها لنفسه، دخلت المرآة حياته اليومية وأصبحت جزءًا منها مؤدية وظيفة مهمة «إذ جعلته يتعرف إلى نفسه، ومكنته من أن يراقب عبر السنين ما يطرأ على ملامحه من تبدل بحكم العمر، وصارت أداة لا يُستغنى عنها [... و] صرنا نجد المرايا والسطوح العاكسة في عديد ما نرتاده من أماكن، وعندما تظهر لنا صورتنا فإننا نقابل أنفسنا»*.

وكان على البشر الانتظار حتى مستهل القرن السادس عشر كي تظهر المرآة بشكلها الذي هي عليه الآن في فينيسيا بإيطاليا** (ص 39) وكما يقول (ص 39) مؤرخ الحضارة الأمريكي لويس ممفورد «فلربما كانت هذه هي المرة الأولى التي تمكن فيها الإنسان من أن يرى صورة عن نفسه مطابقة لما يراه الآخرون». وفي هذا السياق كتبت إحدى كونتيسات القرن السابع عشر عندما بلغت سن الأربعين «لم يكن أمامي، لكي أجاهد نفسي، إلا أن أنظر في مرآتي التي كانت تطلعني كل يوم على ما يلحقه بي الزمن من أذى جديد» (ص 206).

ما أسميناه أعلاه بمقابلة أنفسنا، وأسماه ممفورد برؤيتنا صورة عن أنفسنا «مطابقة لما يراه الآخرون» كان العامل الحاسم وراء ظهور السيرة الذاتية. فتأمل الإنسان لجسده يوميًا في المرآة ومعاينته ما يطرأ عليه من تغيرات، حدا به إلى أن ينتقل إلى تأمل باطنه، أي ذاته، ويسجل، وإن متأخرًا، ما لحقها من تطورات وتبدلات.

فاختراع المرآة الزجاجية في القرن السادس عشر «كان له تأثير هائل على نمو الشخصية والوعي بالذات» (ص 41) ويؤكد ممفورد هذا بالقول «إن المرآة كان لها تأثير كبير على نمو الشخصية وتطورها، وأيضًا على مفهوم الذات نفسه. ولم يتحقق ذلك التأثير بشكل ظاهر وعلى نحو جذري إلا في القرنين السادس عشر والسابع عشر.. ولسنا نغالي إن قلنا: إن مع تطور الوعي الذاتي، والاستبطان، ومحادثة المرآة.. ومن هذا الاهتمام الذي أبداه الإنسان بصورته، نشأ الإحساس بالشخصية المستقلة، وإدراك الصفات الموضوعية لهوية الإنسان وذاتيته» (ص 41).

«إدراك الصفات الموضوعية لهوية الإنسان وذاتيته» هو قوام السيرة الذاتية التي «تفترض إمكانية أن يكون العارف هو نفسه موضوع المعرفة أو المعروف، والراوي هو نفسه موضوع الرواية أو المروي عليه [كذا]» (ص 225)، أي «تتأمل الذات ذاتها» (ص 226).
ورغم أن البدايات الحقيقية للسيرة الذاتية نشأت في العصور الوسطى، «في العالمين المسيحي والإسلامي على حد سواء» (ص 236) لدى سانت أوغسطين في كتابه «الاعترافات» والغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال» (ص 236)، إلا أن ازدهارها

الحقيقي حدث في القرن السادس عشر والسابع عشر؛ حيث أخذ العلم يكتشف العالم الخارجي، وأخذت السيرة الذاتية تكتشف عالم الذات الداخلي (ص 224)، وكلا الأمرين يسرتهما «تلك الأدوات التقنية التي صنعت من الزجاج. فقد كان الزجاج أشبه شيء بثقب الباب الذي شاهد منه الإنسان عالمًا جديدًا، هو في حقيقة الأمر تنويعات، إما بالتوسيع أو التكبير أو التصغير أو التقريب... إلخ» (ص 224).

* انظر عمر أبو القاسم الككلي، حول المرآة. https://alwasat.ly/news/opinions/367741?author=1
** د. محمود رجب. فلسفة المرآة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 2015. وجميع الاقتباسات والصفحات الواردة في المتن تحيل إلى هذا الكتاب وهذه الطبعة.