Atwasat

«سنواتي- مذكرات»: شلقم والقذافي

إبراهيم حميدان الخميس 20 يوليو 2023, 08:16 مساء
إبراهيم حميدان

إبراهيم حميدان
صدرت مؤخراً عن دار الفرجاني للنشر مذكرات عبدالرحمن شلقم تحت عنوان «سنواتي- مذكرات»، وفي تقديري يعتبر صدور هذا الكتاب حدثاً ثقافياً وسياسياً مهماً، فمؤلف هذه المذكرات، كما يعرف الكثيرون، شخصية سياسية وثقافية اعتُبر من المقربين من القذافي، من خلال توليه مناصب قيادية منذ منتصف السبعينات، حيث عمل وزيراً للخارجية، كما تولى أمانة الشؤون الخارجية بمؤتمر الشعب العام، وعمل مندوباً لليبيا في الأمم المتحدة، وسفيراً لها في إيطاليا، وأميناً للإعلام الثوري، ومديراً لوكالة الأنباء الليبية، وهو حاصل على بكالوريوس صحافة من جامعة القاهرة. عمل عقب تخرجه مباشرة في عام 1973 صحفياً في جريدة «الفجر الجديد» التي أصبح رئيساً لتحريرها في 1974 ثم رئيساً لتحرير صحيفتي «الأسبوع السياسي» و«الأسبوع الثقافي».
يسلط المؤلف الضوء على محطات سياسية مهمة، ويساهم في تعميق معرفتنا بمرحلة من أهم المراحل التي عرفتها ليبيا في تاريخها المعاصر وهي مرحلة حكم القذافي ليبيا التي استمرت 42 عاماً والتي رغم طي صفحتها منذ 12 عاماً إلا أن تداعياتها السلبية ما زالت تؤثر في واقعنا الحالي، وسوف تظل معنا لسنوات قادمة إلى أن نتمكن من معالجة تراث تلك المرحلة الثقيل.
سبق للكاتب عبدالرحمن شلقم أن أصدر عدة مؤلفات، بعضها كتب أدبية، وبعضها الآخر في الفكر السياسي، آخرها «أشخاص حول القذافي» و«نهاية القذافي» في 2012. و«حلبة السطور» في 2021.
الكتاب الأول سلط الضوء على مرحلة نظام القذافي من خلال الأشخاص الذين عملوا معه، وعن طريقهم استطاع أن يحكم ليبيا خلال أربعة عقود.
الكتاب الثاني كان توثيقاً لثورة فبراير من خلال رصد أحداثها وشهادات أبرز المشاركين بها.
الكتاب الثالث جمع فيه مقالات عديدة كان قد نشرها في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تناول فيه قضايا عديدة، محورها الشأن السياسي العربي والأفريقي والعالمي، إضافة إلى عدد من المقالات تناولت أوضاعنا المحلية في جوانبها السياسية والتاريخية والثقافية.
وتكشف كتابات شلقم عن كاتب امتلك أسلوباً صحفياً وأدبياً تفيض سطوره بالتماعات شعرية حتى وهو يخوض في أعقد القضايا السياسية الدولية، وهي كتابات تستند إلى ثقافة واسعة في التاريخ والتراث والفلسفة والشؤون الفكرية والثقافية والسياسية، ورؤية عقلانية ومنهجية علمية في التحليل، قادرة على الغوص في القضايا الشائكة وتقديمها للقارئ بلغة تعتمد التكثيف والإيجاز، تحفزه على التفكير والبحث، وتنأى في أغلب الأحيان عن طرح الإجابات .
ذاكرة عهد سبتمبر
هذه المذكرات هي ثاني مذكرات يكتبها سياسي ليبي من المسؤولين الذين عملوا مع القذافي، سبقتها مذكرات الرائد عبدالسلام جلود عضو مجلس قيادة الثورة التي صدرت في 2022 وحملت عنوان «الملحمة». ونأمل أن نقرأ المزيد من شهادات المسؤولين في نظام القذافي، وأن يبادروا بتقديم شهاداتهم عن تلك المرحلة، لعلهم يساهمون في تفكيك الغموض الذي ما زال يكتنفها نتيجة التعتيم الإعلامي الذي كان يعتمده القذافي في تعامله مع الشعب الليبي والعالم، فما كان يُقال ويُنسَج من برامج وخطط في الخيمة هو غير ما يتم الإعلان عنه في وسائل الإعلام، وما كان يضمره القذافي في نفسه هو غير مايُعلنه، (علاوة على ماتتصف به شخصيته من اضطراب وتناقضات)، وبالتالي فهناك الكثير من التعتيم والغموض علاوة على التزييف والكذب الذي شاب تلك المرحلة، وساهم في تضليل فئات كبيرة من شعبنا ما زالت تصدق تلك الأكاذيب التي ظل إعلام القذافي ولسنوات طويلة يطرق بها آذان الليبيين ليل نهار، فصدق الكثير من الناس ماتصُبه وسائل الإعلام في آذانهم من أراجيف وأباطيل تُجافي العقل والمنطق وتعتمد أسلوباً شعبوياً يتلاعب بعواطف المواطنين وأحلامهم .

السرد ذهاباً وإياباً
جاءت مذكرات شلقم في 487 صفحة إضافة إلى ملحق الصور الذي جاء في 41صفحة, فأصبح عدد صفحات الكتاب إضافة إلى الفهرس 535 صفحة.
لم ينتهج المؤلف في مذكراته أسلوباً يقوم على تقديم الأحداث والوقائع بناءً على تسلسلها الزمني بالترتيب، بل لجأ إلى سردها ذهاباً وإياباً دون التقيد بتسلسلها. اعتمد الكاتب على العناوين الفرعية التي بلغت 94 عنواناً، تناول فيها قضايا شتى، بعض العناوين سرد فيها جوانب من سيرته الذاتية: المولد والنشأة والدراسة، ومكتبته ورفاق الشعر والموسيقا.. إلخ، أما بقية العناوين فقد تناولت أحداثاً وقضاياً ومحطات في رحلته كسياسي ودبلوماسي ومثقف، من خلال مسؤولياته الوظيفية، وهي أحداث ومحطات لها أهمية وحساسية خاصة في مسار ليبيا سياسياً واجتماعياً وثقافيا.W
لم يكتف المؤلف بسرد الوقائع بل كان يدعمها، كلما استدعى الأمر، بالتحليل الذي يكشف أبعاداً وخفايا قد لا يعرفها القارئ، سعياً إلى تفكيك خلفيات تلك الوقائع وربطها بوقائع أخرى أحياناً، وهي أحداث كان المؤلف طرفاً فيها بحكم مسؤولياته.
في صفحات معينة من الكتاب يبدو المؤلف وكأنه يأخذنا إلى داخل خيمة العقيد معمر القذافي، ويجعلنا نجلس في زاوية من تلك الخيمة، نشاهد ونسمع ما كان يدور فيها، كيف كان القذافي يدير البلاد، وكيف يتخذ قراراته، كيف كانت أفعاله وردود أفعاله وهو يتعامل مع الأشخاص من حوله، كيف كان يدخل في معارك لا تنتهي مع العالم، أو وهو يحاول حل الأزمات التي ورط البلاد فيها نتيجة تصرفاته أو خطاباته أو أفعاله مع هذه الدولة أو تلك، نرى كل ذلك ونتابعه وهو جالس بالقرب منا على ذلك الكرسي البلاستيكي الأبيض في تلك الخيمة .
شلقم والقذافي
يقول الكاتب في مقدمة الكتاب موضحاً العلاقة بينه وبين القذافي : «الأخ العقيد معمر القذافي تعامل معي كمثقف ولم يُلقِني في قفص الموظف، وما كنت أقدر على التصدي للعديد من القضايا ومواجهة بعض الأطراف بمن فيهم شخصيات من الوزن الثقيل في النظام وكذلك أولاده، لولا تفهّم ودعم قوي منه خاصة في مرحلة معينة، عندما أدرك أن الشعارات الخشبية والتطرف المفتعل الذي يقفز على المشاكل والأزمات ويُدمن عقلية المسكوت عنه وعليه، لا يُقدّم التشخيص الموضوعي والواقعي لأزمات البلاد، ولا يشعل شيئا من الضوء في الطريق المملوء بالصخور والألغام». ص9-10
الأحداث الكبيرة التي يتحدث عنها الكاتب في هذا المذكرات، يعرفها غالبية الليبيين، وقد برزت في وسائل الإعلام، ولكن كان لهذه الأحداث امتداداتها التي كانت خافية على الكثيرين، وأخرى لم يعلم بها إلا صانعوها أو حلقة ضيقة جداً ممن حولها، وكانت دائرة القرار ضيقة في الغالب في العقود الأربعة. ص10
يقسم المؤلف العقود الأربعة التي حكم فيها القذافي ليبيا على النحو التالي :
السبعينات وقد سادت فيها الشعارات الكبيرة التي تمحورت حول القومية العربية والمحاولات الوحدوية: اتفاقية جربة، المسيرة الشعبية نحو مصر.
الثمانينات كانت عشرية الصدام والحرب، من المواجهة مع أميركا عند خليج سرت، والغارة الأميركية في 1986وحرب تشاد وسقوط طائرتي يو تي أيه الفرنسية في صحراء النيجر وطائرة بانام الأميركية فوق بلدة لوكيربي باسكتلندا.
التسعينات كانت سنوات الحصار بسبب العقوبات الأميركية والدولية جراء الحوادث التي حُمّلت ليبيا مسؤوليتها، وأزمة الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني المتهمين بكارثة الإيدز التي أُصيب بها مئات من الأطفال الليبيين في بنغازي، ومشروع الاتحاد الأفريقي الذي كان محور الاهتمام والحركة.
العقد الرابع في عمر النظام بدأ مع عام 2000 وما تلاه، شهد تصالح الإسلاميين مع النظام والإفراج عن المعتقلين منهم، وكذلك الانفتاح على الدول الغربية وعودة العلاقات معها بعد تسوية قضية لوكيربي والطائرة الفرنسية، وإلغاء البرنامج النووي وزيارة عدد من الرؤساء والوزراء الأوروبيين لليبيا، وأيضا بروز أدوار أبناء القذافي وفي مقدمتهم سيف الإسلام ومشروع ليبيا الغد، ومشاريع الإسكان وقيام القذافي بإمامة المصلين في مناسبات المولد النبوي الشريف في أكثر من دولة أفريقية.
يتحدث شلقم عن نفسه فيقول إنه ابن مرحلة ليبية وإقليمية وعالمية تكوّن فيها وتعلم منها وتأثر بها وأثّر بها من خلال مواقعه السياسية المختلفة فقد عمل سفيراً لليبيا في إيطاليا على مدى يزيد عن العشر سنوات، وعمل وزيراً للخارجية تسع سنوات « كنت خلالها أدفع الضرر وأفكك ألغاماً لم أكن من بين صانعيها أو ممن اتهموا بذلك».
ويختم المؤلف مقدمة كتابه: «الوزير في أي نظام سياسي لا يقرر إنما ينفذ ما يقرره رأس النظام خاصة في بلادنا، وتحديداً مع شخص بحجم وقوة الأخ العقيد معمر القذافي، لكن الرأي المشفوع بقراءة موضوعية ونظافة اليد وشفافية الضمير والحرص على مصلحة الوطن يكون لها فعلها. لقد تخلقت بيننا مبكراً كيمياء إنسانية صنعت مساحة من الثقة والود سمحت لي بهامش واسع من الصراحة والصدق. وكان الأخ العقيد يحرص على الاستماع للمعلومة التي يُبنى عليها الرأي، في سنوات عقده الأخير في الحكم وما شهده العالم من تغيرات، صار ميالاً إلى معرفة خرائط وبوصلة العالم الجديد». ص 13
في الأسبوع القادم أواصل رحلتي مع كتاب ( سنواتي - مذكرات) لعبدالرحمن شلقم