Atwasat

«نون» (1-2)

محمد عقيلة العمامي الإثنين 17 يوليو 2023, 01:45 مساء
محمد عقيلة العمامي

أشرت منذ سنوات، في أحد مقالاتي إلى رواية طيور الشوك (Thorn Birds) التي صدرت سنة 1977 للكاتب (McC. Coleen) وظلّت لفترة أفضل الكتب المباعة، وأُعد منها مسلسل تلفزيوني ناجح. يقول بطل الرواية:

«طائر الشوك يعشق الغناء، حتى إنه يموت وهو يغني. لا شيء يرغمه على الموت، سوى قرار يتخذه، دونما سبب واضح. يبحث في إحدى الأشجار عن شوكة حادة يدفع جسمه الضئيل عليها، وحين تنغرز به يصدح بأروع (أغانيه) وكلما مزقت الشوكة أحشاءه كلما زاد من روعة أدائه، وتفننه في غنائه، فيظل يدمي ويحتضر ويغني في آن واحد!»

ولقد وظفت هذه الفقرة في مجموعة قصصية طبعت سنة 2005 عنوانها (رد قلمي) وأشرت إليها بالرقم (1) ولكنها ظلت سجينة لدى الناشر، الذي يبدو أنه ربما رحل عنا، أو إلى وطن آخر! المجموعة تحتوي على 14 قصة، أعدت قراءتها الأسبوع الماضي من بعد ثمانية عشر عاما! وحمدت الله أنني راضٍ عنها، «نون» هي أول المجموعة، ومن بعد الاستهلال الذي أشرت إليه، قلت في الفقرة التالية:

(2)
«عشاق السيدة أم كلثوم يعرفون أنها تتذوق الشعر العربي، ويعرفون أيضاً أنها كثيراً ما استبدلت كلمة أو اثنتين من قصيدة تغنّت بها بكلمات من عندها، وغالباً ما أضافت كلماتها على القصيدة جمالاً ورونقاً للبيت، وأحيانا القصيدة كلها. لهذا السبب، كنت موقناً بأنها جاءت بكلمة (الشوق) بدلا من كلمة (الشوك) في بيت قصيدة الأطلال، الذي يقول:

«يا حبيباً زرت يوما أيكه *** طائر الشوق أغني ألمي»
تصورت - وكان الأصح أن أقول اعتقدت! - أن الشاعر إبراهيم ناجي، المتميز بثقافته الواسعة ـ يعرف ذلك الطائر العجيب، وقد استعاره ليتشبه به، وهو يزور سكن حبيبته، الذي شبهه بالعش، غير أن السيدة أم كلثوم اختارت حالة المتشوّق، بدلاً من حالة طائر الشوك الجريح. هكذا أتصور الأمر!! ولكن عندما اطّلعت على ديوان الشاعر (ليالي القاهرة) الذي صدر عن دار الشروق سنة 1983 وجدت أن السيدة أم كلثوم - رحمها الله - لم تستبدل هذه الكلمة، وإنما استبدلت غيرها وانتقت أبياتاً وتركت – من القصيدة نفسها أبياتاً أخرى - ولكنني ما زلت أعتقد أن التشبّه بطائر الشوك في هذا البيت يجعله أكثر تأثيراً. تأملوا لو استبدل حرف (القاف) في كلمة (الشوق) بحرف (الكاف)!؟

(3)
«بنت الوطن»، وهي المرحومة خديجة الجهمي، كتبت أغنية شعبية قالت في أحد أبياتها:

«كيف سليته.. وكيفاش هان الود.. كيف أنسيتا *** حالي بعد فرقاك، يا لو ريته، ظما يوم قبلي والشراب شويه»
والمعنى باختصار شديد، أنها تتعجب كيف أن حبيبها قد نسيها، وهان ودها؛ ثم شبّهت حالها من بعد فراقه لها، بحالة العطشان في يوم قائظ الحرارة وقليل في الشراب. (القبلي) هو اسم يطلقه سكان المنطقة الشرقية من ليبيا على الرياح الجنوبية التي تهب خلال فصلي الصيف والخريف على السواحل الشمالية لشمال أفريقيا، وهي رياح مُجهدة للغاية، حارة جافة ومحملة بغبار يحجب الرؤية. السيدة بنت الوطن، أبدعت في تصوير حالها بعد فراق حبيبها، ولكن المطرب الذي تغنّى بالأغنية، أخفق. على الرغم من نجاح الأغنية في حينها، عندما استبدل كلمة (القبلي) بكلمة قلبي، فأصبح المعني الذي يفهم بعد التعديل، أن قلبه ظمآن، بعد أن فارقته حبيبته، والشراب قليل. ولا شك أن الصورة الأساسية التي وضعتها بنت الوطن أبلغ من الصورة التي ابتدعها المطرب. العديد من المعجبين والمهتمين بالغناء الشعبي انتبهوا للتغيير الذي حدث، أما الحجة كما فسرها الناقد الأديب الأستاذ عبدالكريم الدناع، هي أنه لرياح القبلي اسم ثانٍ في المنطقة الغربية، وهو (النّو) وبالتالي صعب وصول التشبيه الذي أرادته الشاعرة للمتلقي الذي لا يعرف أساسا ما هي رياح القبلي!