Atwasat

الصوت في الخارج

نورالدين خليفة النمر الخميس 06 يوليو 2023, 06:31 مساء
نورالدين خليفة النمر

تُصاغ تجربة السجن في قصص الكاتب عمر أبو القاسم الككلي ملفوظاً حكائياً تتشكّل من خلاله ضروب الحصر فيما وصّفناه في مقالاتنا بـــ«بنية التعسف».

فالسجن مكاناً في «السجنيات» هو في أحد أبعاده يُقدَّم وصفاً، نلحظ فيه ميل الكاتب إلى الدقة المتناهية في تحديد أمكنة الحبس التي تظهر العالم المادي الذي يحتويه السجن بما يحتشد فيه من تفاصيل، وما يكتظ به من صور قتامة تجعله يطأ بأمكنته على الأشخاص القابعين فيه، فتحيله محيطاً يطغى على وجودهم فيجمّده بما أسماه ميشيل فوكو «انضباط الصمت».

إلا أن ما التفتنا إليه في مقال «إناسة السجن» عن كتابة السجنيات: أن امتثالية السجن عملية مبرمجة لإخضاع، ليس فقط داخل السجن كطبوغرافيا تحوز السجناء، ولكن الخارج كأنتربولوجيا مؤنسنة. هذه الثنائية السجنية يعبر عنها الككلي في نصه (الجسد معادياً) بأن «السجن يحتبس الجسد. يُحيِّزه. يُضيِّق عليه. يُقْفِصه. الكيان المعنوي في الإنسان، ما نسميه الروح، يمكنه، إلى هذا الحد أو ذاك، أن يراوغ حالة الانسجان، أو السجنية، ويتفلّت منها». لتوضيح هدا المنحى الإنساني الذي يراوغ لينفلت من داخل السجن إلى خارجه اقتطفنا ما لامسه بلانشو بصدد الكلام عن ميشيل فوكو في ذلك المقتبس النافذ الرؤية الذي أورده عنه جيل دلوز في كتابه المعرفة والسلطة (مدخل لقراءة فوكو) بأن: «الحبس أو الحجز يحيلان إلى خارج، وما هو محتجز أو محبوس هو الخارج ـ ففي الخارج (...) تحجز الأجهزة وتحبس».

إن بنية التعسف التي تتغيا ضبط الصمت بحبس الصوت في الاتجاهين داخل وخارج يظهره كإشكالية هندسية هذا المقتطف من قصة (الحضور والغياب): «أدخلونا إلى ساحة صغيرة غريبة الشكل شكلها الهندسي غير محدد، يشبه المثلث المشوه. والذي قال لي عنه فيما بعد طبيب سجين، واسع الثقافة عارف بالفيزياء، بأن لهذا الشكل خاصية كسر الموجات الصوتية بحيث يمنعها من أن تشيع خارج الساحة. ولعل ما يؤكد كلامه أن ساحات جميع الأقسام التي أقمت بها في ذلك السجن لها نفس الشكل».

لتوضيح المسألة فلسفياً نرجع إلى الديكارتية وتجاوزها لــ«التأملات» التي ميّزت بين النفس والجسد، بينما حاولت متأخراً في «الانفعالات» وضع المسألة في صيغة جديدة ﻹﻳﺠﺎﺩ ﺣﻞّ ﻟﻌﻼﻗﺔ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﺑﺎﻟﺠﺴﺪ تتمثل في مساهمة ميرلوبونتي في كتابه البارز «ظاهراتية الإدراك» مبيناً أن الإنسان يعرف جسمه لا من حيث هو ممتد، وإنما من حيث هو حركة، أو من حيث هو امتداد يتحرّك سمعياً في مواجهة الهندسة البنائية للسجن الشّفافة أمام تنظيم السلطة، الفظّة والعارية من أيّ خارج والتي بدون ثغرة. وإزاء هذا الوضع يلجأ السجين إلى إرهاف سمعه وشحذه للتفاعل مع أصوات الخارج التي تحاول هندسة التعسف كتم أنفاسها وأصواتها التي تتسرّب داخل السجن بما يبينه هذا المقتطف من قصة (رهافة) «في أيام الصحو واعتدال الطقس (…) تأتي الأصوات دافئة ومترعة بالحياة: صوت امرأة تنادي جارتها، أو تتفقد طفلها اللاعب في الشارع، صخب الأطفال وهم يلعبون وأزيز السيارات العابرة، مواء القطط ونباح الكلاب وزقزقة العصافير في الصباح الباكر وقبيل حلول الظلام وصياح الديكة، في أماكن بعيدة، تدفئ الفجر بأنفاسها وبهجة صياحها».

يمكن تسمية الصلة غير العادية التي يُرسيها الوصف بين الموضوع والأسلوب بما ألمحنا إليه سالفاً بالأسلوبية الذاتية ـ الإيحائية، وهي في القصة القصيرة تخدم في تحديد القالب، وإرساء البداية والنهاية. والمقتطفات النصية من سجنيات الككلي التي تعالج علاقة الداخل بالخارج، والعكس، في تجربة الوعي يمكن صياغتها بالمصطلح الفلسفي «التخارج»، أي تخارج الوعي مع الطبيعة وهو تخارج بمعنى تكامل (معرفي) وليس تضاداً جدلياً. فعلى قدر ما تقابله الطبيعة بتبادل متخارج يعمل على تطوير الوعي معرفياً. يعطي العقل أو الوعي لموجودات الطبيعة في خارج السجن إدراكاً معرفياً، فيتجاوز الموانع التي وضعت لححز النظر إذ يتشكل السمع حاسة بديلة في طوية السجين، فهو يأتي بالعالم إلى قلب الذات، ويكون تعويضاً عن البصر الذي مانعت هندسة السجن أن يرمي بالمحبوس شعورياً في الخارج.. خارج السجن.

في هذا المقتطف من قصة (منشور) يتحول الصوت إلى صورة، فالأصوات تغير الصور بفعل عامل المحايثة التي تجمع بينهما. والصوت بدوره يفسح المجال أمام إدراك الحركة: «في الهزيع الأخير من الليل، الذي تهز سكونه ريح غير قوية، سمعت صوت السيارة يعلو مقترباً، وعند أعلى نقطة في قوس الصوت، سمعت ارتطام علبة معدنية فارغة بإسفلت الطريق، ومع نزول قوس صوت السيارة، سمعت صوت العلبة وهي تتدحرج، مسحوبة بجاذبية حركة السيارة وربما بانحدار وسلاسة الطريق، ومدفوعة بقوة الريح، في مسار مستقيم، في البداية، ثم تنحرف على إحدى حاشيتيها، لتلف حول نفسها. لا يمكنني الجزم بكونها دارت في اتجاهي أو في الاتجاه الآخر، ثم تستقر».

وإذا أزحنا من النص العنوان (منشور) والتأويل بأن تكون العلبة تحوز شيئاً ما. تتبقى الدلالة الإيحائية بما يحققه السمع لحركة العلبة في مجالها الضيق بين عجلتي السيارة.

فعدا أصوات الطبيعة الحية، هناك أصوات الجمادات التي استنفرت حساسية وصف السارد بضمير السجين. فالعلبة المعدنية التي رطمتها عجلة السيارة في النص، تتم ترجمتها في الذهن إلى حركة وصوت متناغمين تنتج عنهما صورة تصنع من الشغف والتعلق والفضول مجالاً سردياً يكون فيه الصوت أداة من أهم الأدوات التي يعتمدها الكاتب المحترف في صياغة قصته.