Atwasat

ديمقراطية حافية

سالم الهنداوي الخميس 22 يونيو 2023, 03:43 مساء
سالم الهنداوي

.. ربّما تكون ذاكرتنا قد أفرغتها الأحداث والأوجاع التي مررنا بها خلال عقود من الضياع ومن انقلابات العقل على نفسه، ومن نفور اليقين بما نهلنا من معارف، فلم نعُد نعرف ماذا نريد بالضبط، ولم نفهم ماذا يريدون منا وقد استفحل بنا وبهم الحال.. نمضي بهم ويمضون بنا في السؤال وينقطع بيننا الوصال، فلا شأن للفكر بأزمة العقل والتدبير التي أصابت الليبيين ردحاً من الزمن، وجعلتهم في النكوص يتبعون الهوى السياسي دون موقفٍ تاريخيٍّ واحدٍ جرئ يضعهم في صدارة المشهد العام للحُكم، ويجعل كُل من دونهم - في السُّلطة - خُدّاماً لهم طائعين لإرادتهم، يراقبهم في العَلَن ويحاسبهم على الملأ، وقد يجرجرهم من رقابهم إذا لزم الأمر.. ذلك يحدث عندما تكون إرادة الناس نابعة من وعيهم بمصيرهم وبقيمة وجودهم في وطنٍ ينتمون إليه في الأصل ولا يبيعونه أوصالاً.

.. لكن لا شيء من ذلك قد حدث في أتون علاقة متباينة مشوّهة بين حاكم بيده القرار ومحكوم له الذلّ والهوان، وفي ظِل «ديمقراطية» بلا روح، تطبخها القبلية المقيتة، ويلتقطها الغُراب في غفلة من الجميع، ليصبح الناس بعد ذلك غُرباء عن أنفسهم ومختلفين على العهد، ومتفرّقين بين اختلافاتهم الجوهرية والهامشية، ولا يذعنون لعقل راشد أو رشيد، في ظِل أقلية نفعية انتهازية تحكُم بلا معروف ولا تنهى عن مُنكر، وقد توفّرت لهم الأطماع والغايات والمكاسب فوق أرض كبيرة تنعم بالثروات، لكن فعل «الغُراب» ولعنته السوداء، جعلها أرضاً صغيرة وبحجم قطعة الجُبن، يسيل الدم عليها في معارك الوهم وهي تبتعد عنهم وتسبح في الدّم.

.. عندما يغيب الشعب عن نفسه في الظرف القاهر، ويركن إلى الظل بلا معنى، فلا حياة له تنتظره في المستقبل ولا تنتظر الأجيال من بعده، فالخطأ الجسيم الذي وقع فيه، هو اعتماده على قُدرات الغير وإهماله لمقدرته على التغيير.. فعلى مدى عقود من التجارب الديمقراطية في البلاد العربية، كان الشعب دائماً هو ضحية الاختيار السيئ الناتج عن الجهل بقيمة «الوطن» والذي قادهم إلى الفراغ الفكري وجعلهم يعتقدون بامتيازات الغير، المعرفية، وبصدقية الشعارات التي ترفعها «الأحزاب» في الشوارع والميادين باسم «الديمقراطية» حتى ولو كانت صياغاتها مُضحكة وركيكة ورديئة، أو مثالية عاجزة عن التحليق في سماء الوطن مثل طائرٍ بلا جناحيْن.. وليكتشف «المواطن» بعد ذلك بأنه كان يشتري الوهم من باعة الوطن الجسورين، الذين يملكون رأس المال السياسي، بلا ذمّة، لشراء الديمقراطية من أصحابها الفُقراء بأبخس ثمن في ساحات انتخاب أصبحت مع التجربة أشبه بسوق المزادات الشعبية للشعارات، الكُل يصيح بأحلام الرخاء المجتمعي وبدولة القانون، وهُم - في حقيقة الأمر- حالمون برخائهم العائلي في مجتمع مغلوب على أمره، وبتعطيل القانون لكي يمرّوا على الفقراء بأرتال الفساد..

إن مُجرّد دخول الناس لسوق الديمقراطية بلا زادٍ ولا كفاف، يجعلهم رهينة الفقر «المعرفي» بأطماع سماسرة السوق، فيقعون في فخّ المزايدة بالشعارات ويقبلون بالبضاعة السيئة دون تردُّد، ثم يندمون على ارتدائها في فضيحة حياة عندما يكتشفون ضحالتهم وأنهُم كانوا وحدهم السلعة الرائجة في السوق، وثمة من اشتراهم جملة، وحُقّ لأعوانهم التضحية بها لسلطة الحاكم على المحكوم.

.. كانت الديمقراطية الوافدة بأزيائها البرّاقة، مُجرّد سلعة مستوردة لسوق جُملة، عوضاً عن «الشورى» في الإسلام التي جمعت المسلمين للنقاش في يوم الجُمعة، والتي حاربتها السلطة الحاكمة حسب مصالحها، لينتصر الحاكم على المحكوم بشعارات «الديمقراطية»، فتارة تكون سافرة إرضاءً للعلمانية، وتارة تكون متحجّبة إرضاءً للشريعة.. وبين ركحيْن متصادميْن على المسرح السياسي «العلمانية والدين» وما بينهما من خلافات سياسية وحروب دموية بين أشقاء الوطن الواحد، تضيع «المدنية» وتسقط من حسابات «الديمقراطية» كمنهج معرفي مستورد، كما تضيع ذات المدنية وتسقط من حسابات «الشورى» كمنهج معرفي أصيل.. وبين الأصيل والمستورد غير الأصيل، يعيش الحاكم بأمره، ويموت المحكوم المغلوب على أمره.