Atwasat

التيه و«تبويس اللحى»

رافد علي الخميس 15 يونيو 2023, 12:00 مساء
رافد علي

تستمر حلقات مسلسل الجمود السياسي كسيدة للأحوال في ليبيا، ويبقى رجالات الأزمة الليبية يمارسون سياسة تميّع الشعور العام بأن اجتماعاتهم ستكون ميلاد تنازلات تليق بمرحلة طال أمدها، والتي باتت تتميز بالتحقيب البسيط تاريخيا بسبب انحشارنا المُقنع ضمن حدود المربع الأول لأزمتنا السياسية منذ 2011.

لا عزائم قائمة ولا نوايا مصممة على إجراء الانتخابات بالبلاد هذا العام، وقد تناصفت السنة الميلادية، الأمر الذي يجعل القضايا النوعية والإجرائية، الآن، لأي انتخابات عقبة حقيقية تواجه أي ليبي يتنفس مهازل المراحل الانتقالية المعاشة، ويدرك العيوب التي ستشوب أي استحقاق انتخابي مزمع عقده، إذ ستتربص به حالة العجل والارتجالية التي صارت سمة من سمات الرداءة السياسية بالبلاد. في مارس الماضي، اتهم عبد الله باتيلي، المبعوث الأممي بالبلاد، أرباب الأزمة الليبية بالتقاعس عن إجراء الانتخابات، وهو الرجل الواقف على حقيقة الجهود المبذولة في طرابلس وطبرق، لإجراء الاستحقاق المزعوم بشقيه النيابي والرئاسي.

لقد جاءت اجتماعات بوزنيقة الأخيرة كسابقاتها هرولة سياسية، لتموت قبل الوصول لخط نهاية السباق مع الزمن، وكأنها لقاءات ليبية – ليبية ولدت لأجل رفع الملامات الدولية عن كاهل أهل الحوار، وسط نداءات دولية تطالب المتحاورين بـ «بذل المزيد من الجهد»، ومن ثم انعدم وجود أي ضغوط دولية على الوفود المشاركة، لتجاوز البؤس الجاثم على البلاد ومواردها المهدورة بلا خطط اقتصادية وتنموية واضحة الملامح، إذ تستمر البلاد في الإنفاق على بحور الفساد والتهريب والإفقار وغسل الأموال.

لقد أصبح من الجلي جدا أن الغرب غير مُصر ولا متحمس فعليا لانتخابات بليبيا، باعتبارها عملية ستحسم قضية الأموال المجمدة بمصارف غربية ما زالت تتكئ عليها في وجه تبعات الأزمة الاقتصادية بعد «كوفيد-19»، وفي ظل ما يعانيه العالم اليوم من تضخم اقتصادي أضحى يترسخ أوروبيا، على الأقل، بحسب تصريحات وتقارير الاتحاد الأوروبي الصادرة عطلة نهاية الأسبوع الماضي. كما أن واشنطن لم تصدر حتي التو قانونا خاصا بشأن معرقلي حل الأزمة الليبية، على الرغم من موافقة الكونغرس عليه، لكن لم يبت مجلس الشيوخ فيه حتي الآن. في حين تظل لندن هي من تمسك بتلابيب الحياة المالية الليبية، وتحتكر وظيفة كاتب صياغة القرارات الدولية بشأن الأزمة الليبية منذ فبراير إلى حد اللحظة، بل إن واشنطن لم تعقد قمة تجمعها مع بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا بخصوص الأزمة الليبية، كما تسرب ذات برهة مطلع هذا العام، بل سارع البيت الأبيض لتكذيب الخبر كليا في مؤتمر صحفي، وبرزت عوضا عن ذلك مقترحات السفير الأميركي نورلاند بالإشراف والسيطرة على الموارد المالية الليبية، وبقيت التطلعات الأميركية لمناقشة مستقبل الشأن الليبي مفتوحة أمام منطق الافتراس الهادئ للكعكة الليبية ضمن براغماتية واشنطن المعهودة.

منذ اتفاقية كامب ديفيد الشهيرة بات لعلم النفس دور بارز في السياسة والتفاوض، إلا أننا نصطدم الآن بأسماء الأماكن التي يجتمع فيها أرباب أزمتنا في المملكة المغربية الشقيقة، على الرغم من عراقة الدبلوماسية المغربية، وتتلمذ رجالاتها في العالمين الفرانكفوني والأنجلوسكسوني، فعلم النفس في التفاوض يركز على دلالات الأشياء، ووقعها فى الأنفس مثل الأسماء والرموز والمواقع الجغرافية، بقصد تجنب أي تناص سلبي يعكر صفو الأجواء التفاوضية، لخلق أفضل الظروف الملائمة لتحقيق اختراقات تفاوضية تُفضي لانفراج يكسر أي جمود، وهذا ما لا نجده، للأسف الشديد، في اسم «الصخيرات» ولا في اسم «بوزنيقة». قصر الصخيرات في المملكة الشقيقة ما زالت تفاصيله وتوابع الحيثيات فيه عالقة في ذاكرة الأشقاء المغاربة، ويعرفونها بـ «سنوات الدم والرصاص»، بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة على نظام الملك الراحل الحسن الثاني العام 1971. كما أن لاسم «بوزنيقة» أثره السلبي على الأسماع، خصوصا بعد شُهرة خطاب القذافي «زنقة زنقة.. بيت بيت» كإسكتش سياسي آلت بعده الأمور لحرب شرسة وتصادم أهلي مروع. أعتقد أن الاهتمام بهكذا جزئيات في حلقات التفاوض الليبي - الليبي من شأنه أن يلعب دورا إيجابيا، ويمنح انطباعا طيبا لدى المشارك في التفاوض والمتابع له، إضافة إلى أنها تدابير ستبث روحا للتفاؤل بدل شيوع حالة التطير أو التندر في أفضل الأحوال.

إنزال سقف الجمود السياسي في ليبيا ما زال غير مسموح به بعد، فستبقى ليبيا اليوم مُعلقة بذاتها ورجالها إلي أبعد الآجال ضمن مبدأ «تبويس اللحى» من قِبل الطرفين، للإبقاء علي الانقسام والفوضى، على الرغم من مساعي باتيلي لوضع قطارنا المتهالك على القضبان، حتى نخرج به من تيه واقع اللا معنى، في ظل غياب مربك لمشروع وطني ليبي حر ومستقل بالبلاد، وكأن البلاد قد عَقِمتْ!.