Atwasat

عنكم وعن أروع الأمهات

محمد عقيلة العمامي الإثنين 12 يونيو 2023, 12:41 مساء
محمد عقيلة العمامي

يندر من أي كاتب، مهني، بمعني أنه ملتزمُ بالنشر يوميا أو أسبوعيا أو حتى شهريا، أن يقرأ للدكتور طه حسين من دون أن يجد فكرة لموضوع يستحق أن يُكتب عنه.

دعوني فقط أوضح أن المقال المُلزم، رأيا كان أم زاوية أو حتى عمودا، يختلف تماما عن المقالة الإبداعية، وهي تلك التي تتعامل أساسا مع فكرة أو رأي يتعين أن يُقدما ببلاغة أدبية تهتم بالبناء التعبيري المؤثر. المقالة الصحفية في الغالب تتناول رأيا أو فكرة في الغالب إرشادية أو نقدية ساخرة. ومهما يحاول الكاتب أن يزاوج ما بين الموضوعين، يعجز أحيانا عن إيجاد موضوع لمقالته المُرتبة بموعد مسبق ومحدد.

أعترف أنني مأخوذ ببلاغة الدكتور طه حسين، وقدرته على المزاوجة بين نوعي المقالة التي ذكرت، ولكن علينا أن ننتبه إلى أن جيل الأدباء الذين عاشوا زمن طه حسين، وارتبطوا معه بصداقة، كانوا على مستواه في الأسلوب، وأيضا في الاهتمام بحال بلادهم، محاولين أن يكونوا شخصيات فاعلة ومفيدة، وكانت رسائلهم تؤكد التزامهم الوطني ومسئولياتهم تجاهه.

توفيق الحكيم، رائد المسرح المصري، من جيل طه حسين، وهو من الذين ارتبطوا معه بصداقة خلّفت لنا رسائل متبادلة تدل على عمقها، وصدقها، وتبرز أيضا مدى اهتمامهما الكبير بحال وطنهما.

هذه رسالة من الحكيم إلى طه حسين ننتقي منها فقرات، غايتي منها أن أصل لطرح سؤال بسيط وعميق ومهم للغاية، متطلعا إلى إجابته منا جميعا: هل ثمة واعز حقيقي نعمل من أجله، لنثير السؤال نفسه، ونعمل على الإجابة عنه؟ هل نحن، كتّابا كنا أم قراء، نسأل بعضنا البعض مثل هذه الأسئلة؟ هل واجب القادر على إثارة الموضوع، من دون أن أحدد أنه مثقف أم لا، أن يثير هذه الأسئلة، خصوصا عندما يكون الحال كحالنا نحن الليبيين في هذا الزمن؟.

إليكم جزء من رسالة الحكيم إلى طه حسين، يصف فيها حاله وقت الصيف، فيقول:
«أخي الجليل.. أكتب إليك من القاهرة والحر شديد، فهذا الصيف أيضا قد مضى أكثره ولم أظفر بإجازة..». ويستطرد: «..وهكذا كتب علينا البقاء في باب الخلق صيفين متتاليين، على أن أحداث مصر قد شغلتنا عن الحر والشعور بوطأته، وهي أحداث أجل من أن توصف في خطاب، بل إني أرى الأدب عاجزا عن تسجيل تلاحقها السريع، وإني لأسأل نفسي: ما هو واجب الأدب حيالها؟.

وأقصد بالأدب لا ذلك الشبيه السريع الذي يصدر عن وحي القصائد الشعرية والزجلية، أو الصور الإذاعية، ولكني أقصد الأدب الحق الذي يفهم ويهضم.. ماذا يستطيع أن يفعل هذا الأدب الآن؟.

لقد قيل لي فيما سكوتك ومصر حولك تشهد أعجب صفحاتها في التاريخ الحديث؟ ولكن هل أنا ساكت حقا؟.. إن كل شيء في رأسي ونفسي مضطرب ثائر، وإني لأفكر في كل شيء كما لو كنت أنا المنوط به حل الأمور، فأنا أعيش حياة بلادي الآن كما يعيشها المواطن الصالح، ولكني باعتباري أديبا أعترف أني لا أستطيع بعد شيئا، وما أهون أن أحمل القلم لأكتب من الكاتبين وأؤلف من المؤلفين، وأنشد من المنشدين، ولكنى لا أدري ماذا أكتب الآن، وماذا أؤلف؟.

إني في حاجة إلى أن أعيش أولا هذه اللحظات، أن أعيشها كإنسان وكمصري.. أرجو أن أعيشها مرة أخرى كأديب عندما يكتمل لي استيعاب أكثر نواحيها».

وهكذا وصلت نهاية رسالة الحكيم إلى طه حسين، وكل الذي خطر على بالي رفاقي الكتّاب، وأيضا أولئك الذين عفاهم الله وأبعدهم عن مغبتها، وجميعهم يعيشون واقعا لا يختلف أبدا عما وصفه الحكيم في الأسطر الماضية، وإنني لعلى يقين أن حالهم كحالي، سواء أكانوا خارج ليبيا أو داخلها.

أعترف بأنني شرعت في كتابة أسماء أصدقائي من الكتّاب، ولكنني مسحتها، وعممت الحال، خشية أن أنسى أحدا، وأنا على يقين بأن ما كتبه الحكيم ينطبق عليهم، سواء أكانوا في طرابلس أو بنغازي أو في قرية أو أي من مدن ليبيا كافة.
ماذا بمقدور كتّابنا أن يكتبوا؟ وماذا تجدي الكلمات؟. كل الذي أعرفه أنهم يمسون ويصبحون على الحال نفسه، يوثقون حالا لا يختلف عما وثقه توفيق الحكيم من أكثر من نصف القرن. كل ما نحتاجه أن نستبدل كلمة «مصر» في رسالة الحكيم بليبيا.. ليبيا أمنا التي ستظل على الدوام أروع الأمهات.