Atwasat

تلك اللحظة بالذات..!

سالم الهنداوي الأربعاء 31 مايو 2023, 05:06 مساء
سالم الهنداوي

 سالم الهنداوي يكتب:
.. لكلٍّ منا محطات ممتعة في حياته جعلناها ماضياً جميلاً خاصاً بنا نتذكره ملياً في معظم الأوقات، ونستمتع بتذكره وبذكره للآخرين في أحاديث اشتياق، والكتابة المفعمة بالشوق إليه.. محطات مميزة في حياتنا كانت ماثلة في حكاية زمن عاشتنا وعشناها بتفاصيلها الجميلة كما ينبغي، هكذا طواعية.. ولعلها في الشوق كانت تنتظرنا في لحظاتها الآنية دون أن نستدعيها من ذاكرة ما، أو نخطط لها في مشاوير حياة، فكانت دائماً الحدث الأجمل والأهم وسط أحداث كثيرة مزعجة مرت بحياتنا في ظروف سيئة مقتناها جماً وتمنينا كثيراً عدم حدوثها في الواقع لكونها أصبحت مع الزمن مصدر كدرٍ وإحباطٍ واكتئاب، فيما الخلاص منها كان يبدو صعباً لو لم نعش وتسعفنا تلك الومضات الجميلة في حياتنا، فعوضتنا تلك المحطات عنها في التجليات ولنحكم قبضة ذاتنا عليها كي لا نفقدها في وعينا، بل وتمنينا كثيراً أن تتكرر في حياتنا كي تمتعنا أكثر، ما يؤكد أننا مع جمال تلك اللحظة الأبدية بالذات، وبحبل سرها العجيب منذ خلقنا الله عراة، ومع الحياة الحرية كي نمنح الوجود حق بقائنا فيه، وليمنحنا هذا الوجود بالتالي حق الحياة فيه أحراراً كما نشتهي، وكما أراد الله أن نكون..

لعلّ أجمل ما في حياتنا العابرة هو اعتقادنا الدائم بإنجاز لحظة الفرح، تلك اللحظة التي باغتتنا في الحياة فابتهجنا لها بانفعال ظاهر مفعم بالولهْ، حتى دمعت عيوننا مهجةً وحماساً، بل ورقصنا لها كالأطفال تعبيراً لا إرادياً عن الفرح، ذلك الفرح الذي لم نأسف على حدوثه بالمرة في لحظته تلك، بل وتمنينا أن يعود حالاً في كل مرة بمثل تلك الروح البهية التي انبعثت فينا من عدم وزوال، ومنحتنا الحياة، وكأننا كنا قبلها موتى في حياة عالقة في الدنيا بلا روح، ونتساءل حينها وبعدها، كيف ابتهجنا واقشعرت أبداننا وفرحنا وقفزنا نطير بجناحي حياة، راغبين فيها وفي عطاياها الممكنة، وكأن الوجود صار ماثلاً في حقيقة الحياة، وأن فقدان الحياة ليس بالموت فقط، وإنما بخسارة الأشياء الجميلة فيها.

.. ليس هناك أجمل من لحظة طفولة نعيشها وقد أمضينا زمناً ننتظر الفرح، فرقصة الكهل كـ«زوربا اليوناني» مثلاً، تظل تعبيراً عن الحنين للطفولة، وكما طبيعة الأشجار في «الهملايا» حين تعود بعد خريف، وكما أنهار «الأمازون» الصاخبة سليلة الينابيع النائية يغمرنا نداؤها بين وديان رسمتها التضاريس في الزمن وشقت أخاديدها في رحلة غناء البجعات البيض.. تلك الطبيعة تخرج من ذاتنا البعيدة في الوجود، فنستذكرها في خيالنا كما نستذكر تلك اللحظة في حياتنا.. إنها أبجدية الخلود بمعناها الروحي، قليلون يدركون معانيها فيكتبون من وحيها الخالد ما يبعث الجمال، وكثيرون يعيشون على منوالها دون أن يدركوا وقعها في ذاكرتهم.

غالباً ما تشتعل ذات المبدع في الكتابة مع قصار القصائد والقصص، حين يكون مأخوذاً إليها، وتكون حينها الومضة لحنينٍ ما يتفجر في لحظته الآنية دون سيطرة عقل، منفلتة من ذاكرة صورة عميقة تنبلج، وهي لحظة قادحة كشرارة نار في سديمِ ظلام سرعان ما تتلاشى في الهواء، لكنها تبدو واقعاً في زمن أكيد وإن كان عابراً ولم يثر جلبة في المكان.. هكذا الإبداع، طلقة صائبة من كاتم صوت.

.. في ذاكرة الرسام يسقط الضوء كما اللون من الفرشاة، وتأخذ الأصابع طريقها في مساحة خيال واسعة وإن كانت في حدود بروازٍ مربع أو مستطيل، فتلك الحدود كائنة في شكل اللوحة، ولكنها معزولة في رؤية التشكيلي، فلم يذكر تاريخ الفن القديم والمعاصر أن فناناً توقف عن الرسم بسبب ضيق مساحة اللوحة، وهنا تكمن مهارة الفنان في وضع رؤيته داخل حدود غير موجودة في خياله، وهذا الإنجاز يُحسب أيضاً لتلك اللحظة في حريتها وتماهيها ودرجة فعلها في واقع ملتبس بين الكينونة والفعل الإبداعي.. لقد قصد الفنان قلب اللوحة ليصبغ تلك اللحظة في ذاتها الغامضة، وليجعلها المرتكز لبداية التشكيل، وما حدود اللوحة بعدها إلّا نهايات متدرجة في اللون والضوء، كما الشفق في منتهاه وهو يرسم في السماء بديعته الكاملة.