Atwasat

(حاضر المتقدمين: مستقبل المتأخرين) (2)

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 30 أبريل 2023, 12:52 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

يأخذ طرابيشي1 على طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر"، "صياغته للإشكالية على صعيد الهوية، بخلطه بين الغائية والكيفية: فـ ‘‘أن نصبح أوربيين في كل شيء‘‘ معناه لا أن نتقدم كما تقدموا فحسب، بل أن نحاكيهم ونحتذيهم حذو النعل للنعل في الكيفية التي تقدموا بها وفي الطريق التي ساروا عليها، متنكبين عن طريق الاختراع وإعادة الاختراع إلى طريق الاستنساخ" (ص 40).

ويقتبس طرابيشي من طه حسين قولا يصفه بأنه دعوة إلى "التماهي غير المشروط" نصا يقول "إن الواجب الوطني الصحيح، بعد أن حققنا الاستقلال وأقررنا الديموقراطية في مصر2، إنما هو أن نبذل ما نملك وما لا نملك [! ع. ك] من القوة والجهد ومن الوقت والمال لنشعر المصريين، أفرادا وجماعات، أن الله قد خلقهم للعزة لا للذلة" (ص 40).

ويمضي طه حسين في تعديد المناقب والخصائص التي خُلق المصريون لها كي "نمحو من قلوب المصريين، أفرادا وجماعات، هذا الوهم الشنيع الذي يصور لهم أنهم خلقوا من طينة غير طينة الأوربي وفطروا على أمزجة غير الأمزجة الأوربية ومنحوا عقولا غير العقول الأوربية..." (ص 40) ليقرر أنه "علينا أن نصبح أوربيين في كل شيء، قابلين ما في ذلك من حسنات وسيئات... علينا أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد فيها وما يعاب" (ص 40-41).

يصف طرابيشي نص طه حسين هذا بأنه بالغ الجرأة، لكن "مكمن الالتباس ومثار الاعتراض" (ص 41) فيه هو توحيده "بين الغائية والكيفية في الدعوة إلى التقدم" (ص 41) إذ يرى، أي طه حسين، التقدم "على أنه محض ‘‘تأورب‘‘، ملغيا بذلك كل هامش للحرية ومؤسسا لجبرية هوانية3 (= من الهوية4) وخالطا بالتالي بين سيرورتين يحاذر علماء النفس والاجتماع المعاصرون كل المحاذرة من الخلط بينهما: الهوية والتماهي" (ص 41).

فطه حسين بهذا، حسب طرابيشي، يطالب الشعوب غير الأوربية وغير الغربية، وليس المصريين والعرب والمسلمين وحدهم، "بالتنازل عن هويتهم لكي يصبحوا ‘‘أوربيين في كل شيء‘‘. وبدلا من مطلب تماه جزئي مع إنجازات بعينها للحضارة الأوربية، فإنه يغالى حد الحض على تبني ما هو شر ومر ومكروه ومعيب في حضارة الأوربيين، وليس فقط ما هو خير وحلو ومحبوب ومحمود" (ص 41).

وهنا، يقرر طرابيشي "أن مطلب التماهي الكلي هذا ينقض نقضا عنيفا مبدأ الهوية" (41). ذلك أنه "بدلا من أن تكون الهوية تركيبا عضويا لجملة التماهيات الجزئية، فإن التماهي الكلي لا ينتج، على العكس، سوى كاريكاتور هوية" (ص 41). وأنه "بقدر ما يقوم التماهي الكلي في آليته على التقليد والمحاكاة، لا على التأصيل والتبيئة والتجديد وإعادة الإنتاج والاختراع، فإنه يكف عن أن يكون عامل تكوين للهوية ليصير على العكس عامل نزع وتفكيك للهوية وعنصر إفقار وتسطيح للشخصية.

وبدلا من أن يكون التماهي، كما يدل اشتقاقه، سيرورة اكتساب للماهية، فإن ميكانيكا المحاكاة تحطه إلى فعل بيغاوي5 بليد وذليل ينخفض بكرامة الهوية إلى مستوى التبعية الذيلية. وبكلمة واحدة، إن التماهي الجزئي والمشروط قد يكون تدريبا على حرية الهوية، ولكن المحاكاة موقف عبودية" (ص 41).

ويستدرك طرابيشي بأنه لكي لا "نقيم سورا صينيا بين مبدأ الهوية وآلية التماهي، نستطيع أن نعود إلى التمييز الذي أثبتناه بين الغائية والكيفية في سيرورة التقدم لنلاحظ أن مطلب الغائية يحدد مستوى إثرائيا وإبداعيا للتماهي، في حين أن مطلب الكيفية يحدد مستوى إفقاريا وإتباعيا للهوية الاسترقاقية" (ص 41- 42). ذلك "أن المطلوب أولا وأخيرا إعادة إنتاج التقدم وليس محاكاته واستنساخه" (ص 42).

1- جورج طرابيشي : أتغريب أم تحديث؟: طه حسين وسؤال مستقبل الثقافة. في كتابه: من النهضة إلى الردة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة"، ط2، دار الساقي 2009. الصفحات من: 39 إلى 44. انظر عمر أبو القاسم الككلي: (حاضر المتقدمين: مستقبل المتأخرين) (1) https://alwasat.ly/news/opinions/396565?author=1

2- بهذا الشأن يضع طرابيشي هامشا يلاحظ فيه "إن هذه المصادرة على التحقيق المبكر للديموقراطية تنهض شاهدا على ضرب من الاستسهال – الذي لا يخلو من سذاجة تاريخية – من جانب طه حسين لعملية التماهي مع الأوربيين".

3- هكذا في الأصل، ولعلها "هوياتية".

4- يثبت طرابيشي المقابل الأجنبي لما يورده من مصطلحات بالفرنسية ولم نرَ داعيا لإعادة إثباتها من قبلنا.

5- هكذا في الأصل، وواضح أنها خطأ طباعي وصحيحها "ببغاوي".