Atwasat

حكايات للكبار فقط

سالم العوكلي الثلاثاء 11 أبريل 2023, 05:22 مساء
سالم العوكلي

حين اشتريت أول سيارة نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وأتممت إجراءات ملكيتها وتأمينها، واستخرجت رخصة قيادة، قررت أن أمضي قدماً في التزامي بالقانون، وبشكل غير دارج اتخذت قرار ربط حزام الأمان في كل حركة، ولكن، وفي أول بوابة، أوقفني شرطي المرور من دون الجميع، وطلب إجراءات السيارة وهو يقول بثقة من كشف حيلةً ما مفاده أن ربطي للحزام ليس من دون «خنطقيرة»! بمعنى أني أخفي مصيبة بمحاولة تضليله بربط الحزام. وحين وجد كل الإجراءات سليمة، قال بإحباط: «غريبة»؟! . وتركني أمضي في حال سبيلي. ومنذ تلك الحادثة أصبحت أفك حزام الأمان كلما اقتربت من بوابة حتى لا يجلب لي الشبهة.

منذ فترة تسببت بعض أعمال الحفريات في قطع خط المياه الواصل إلى بيتي، وحين طلبت من المقاول إصلاح ما أتلفه باعتبار أني، منذ 25 سنة، وأنا أدفع قسط المياه شهرياً لشركة المياه، ومن حقي أن تصل المياه إلى بيتي. فقال لي بضحكة الواثق من خفة دمه: هذه ليبيا ولو أنك لا تسدد قيمة المياه لما انقطعت عنك!!.

حين سمعت بافتتاح مكتب لجباية رسوم الكهرباء في قريتي، ذهبت إليه لأسدد ما عليَّ من دين وأصفي ذمتي مع شركة الكهرباء، واستغرب موظف الجباية هذه البادرة وأثنى عليها، لكني دخلت في نفق من الإجراءات المعقدة والمتعبة بما فيها الوقوف ساعات في طابور المصرف، وأخبرته أنه من المفترض أن تكون إجراءات التسديد سلسة لكي تشجع المستهلكين على السداد، غير أنه بعد شهر وعشرة أيام وصلتني رسالة على الموبايل بأسلوب إنذار تطلب مني تسديد دَيْن الشهر في ظرف أسبوع وإلا ...، ولأني من القلة الذين سددوا ديونهم دخل اسمي للمنظومة، وأصبحت من أتلقى رسائل الإنذار الأخير على موبايلي، وبسبب أزمة السيولة قررت أن أنتسب لنظام التسديد عبر أقساط شهرية، وهكذا بدأت رحلة أخرى من الكد لإنهاء هذا الإجراء، غير أن الإنذارات توقفت في النهاية.

الالتزام بالقانون في دولة اللاقانون شذوذ عن قانون آخر أصبح سارياً في ظل الفوضى والتسيب، وحين نلتزم فنحن نخرج عن هذا القانون الجديد ونستحق العقاب.

***

شخصية من قريتي القيقب، كان مشهوراً بالطرافة وسرعة البديهة وتوليد النكات التي عادة ما يتناقلها سكان القرية، التقيت به قبل وفاته بفترة قصيرة في إحدى المناسبات، وسألته عن آخر الطُرَف. فاخبرني وهو عابس أنه توقف عن إطلاق النكات والتعليقات، وحين سألته عن السبب قال: «أنت تعرفني... أنا من ننقلش في النكت ولا نكرر فيها، ومعظمها تعليقات على شخصيات وحوادث في القرية، لكن كثروا البصاصة وكلما نقول تعليق على أحد يوصلوه له الجماعة، وثاني يوم يجي يتهجم علي في المحل. فقررت الاعتزال». لكنه بعد قليل روى لي إحدى الطرف قائلاً اعتبرها (طرفة اعتزال) دون أن يتلاشى العبوس من على وجهه. وأنا أعيد قراءة كتاب (الستارة) لميلان كونديرا توقفت عند هذا التوصيف الذي ذكرني بصديقي القروي رحمه الله: «يتبدى التظاهر بالرزانة في كل مكان حوله ولا يرى فيه يوريك، إحدى شخصيات رواية تريترام شانداي، إلا احتيالا، رداء يخفي الجهل والحماقة. وبقدر ما يستطيع، يلاحقه بتعليقات مضحكة وفكاهية. هذه الطريقة المتهورة في المزاح تبدو خطرة؛ فكل عشر طرائف تكسبه حوالي مئة عدو، حتى أنه ذات يوم، بعد أن لم تعد لديه القدرة على تحمل ثأر العبوسيين يلقي رمحه وينتهي إلى الموت محطم القلب. أجل، وهو يروي حكاية بطله يوريك، يستخدم شتيرن كلمة (العبوسيين)، وهي كلمة محدثة ابتكرها رابليه من اللغة اليونانية ليُعرّف أولئك الذين لا يعرفون الضحك.

كان رابليه يكره العبوسيين الذين بسببهم على حد قوله «ألا يعود يكتب حرفا». وحكاية يوريك هي تحية أخوية يوجهها شتيرن إلى معلمه عبر قرنين من الزمان. ثمة أناس يعجبني ذكاؤهم، وأحترم نزاهتهم لكنني أشعر معهم بالضيق: «أراقب أحاديثي حتى لا يفهموني خطأً وحتى لا أبدو كلبياً، وحتى لا أجرحهم بكلمة طائشة أكثر مما ينبغي. لا يعيشون بسلام مع الفكاهة. ولست ألومهم على ذلك، فعبوسيتهم مدفونة عميقاً فيهم ولا يسعهم شيء حيالها. لكن أنا أيضاً لا يسعني شيء حيالها، لذلك أتجنبهم من بعيد دون أن أكرههم. فأنا لا أريد أن أنتهي مثل يوريك».
***

بعد قطيعة استمرت سنوات قُفلت فيها الحدود بين مصر وليبيا، عادت العلاقات نهاية الثمانينيات وفُتح منفذ الحدود، وبعدها بشهرين سافرت إلى مصر، وعلى الحدود الزاحمة أمام الجمرك شاهدت طابوراً من الشاحنات المصرية التي تنتظر أمر الدخول إلى ليبيا، ولفت نظري أن معظمها يحمل شحنات ضخمة من الطناجر الكبيرة التي نسميها طناجر (عزاء)، وشحنات من المراحيض. لا أعرف لماذا ضحكت، لكني تساءلت: هل هذا ما يختزل حياة الليبيين (طناجر ومراحيض).

كلنا نعرف عقد الثمانينيات القاسي الذي مر بنا بأقصى درجات التقشف واحتكار القطاع العام للتجارة، وإيقاف استيراد الكثير من السلع، دون أن يتوقف الحرص على استمرار عمل الجمعيات الاستهلاكية التي توفر الغذاء الضروري لاستمرار الحياة في حدها الأدنى، ما يجعل المشهد على الحدود مع مصر متناغماً مع هذه السياسة التي ما زالت تفعل فعلها حتى يومنا هذا الذي يعبر فيه الكثيرون عن حنينهم لذاك الزمن وذاك النظام الذي كان يوفر الغذاء (العلف) والأمان (الحضائر المسيجة) للشعب. الحنين إلى ذاك الزمن الذي يعتري الكثيرين، الآن، هو حنين إلى طنجرة يطبخون فيها سلعاً مدعومة ورخيصة، وإلى مرحاض يجلسون عليه في أمن وأمان. وهذه طريقة لاستمرار العيش لكنها لا تمت للحياة بصلة، لأن الحياة أكثر جمالاً وتطلباً من ذلك بكثير.

***

آخر فيلم حضرته، كان في سينما التاجوري بمدينة درنة العام 1979، قبل أن تختفي دور السينما من هذه الأرض تماماً، حيث كنت رفقة أحد أقاربي نتسكع في شارع الجيش، وفجأة أخرج من جيبه بعض الفكة وهزها في يده مقترحاً أن ندخل بها إلى السينما. قطعنا تذكرتين في مقعدين في المنتصف، وبعد دقائق أظلمت الصالة وبدأ عرض فيلم (الدستة القذرة)، وكنت وقتها بل وما زلت مغرماً بأفلام رعاة البقر، لكن بعد حوالي نصف ساعة من بدايته توقف العرض فجأة وأُشعلِت الأضواء، لنكتشف أن عشرات من رجال الشرطة العسكرية قد اقتحموا صالة العرض للتفتيش والقبض على أكبر قدر من الشبان الذين بالتأكيد معظمهم لا يحمل أوراقه في هذا المكان المرتبط بالترفيه، لكن الأمر كان ملحاً وقتها بسبب اشتعال حرب الحدود الجنوبية والحاجة إلى مزيد من الحشد الشعبي لهذه الحرب التي تخاض في صحراء مترامية. كنت وقتها في العطلة الصيفية بعد إتمامي للمرحلة الثانوية، وكان من المفترض أن يكون الطلاب يحملون بطاقات (مؤجل) فيما يخص التجنيد الإجباري، لكن ظروف الحرب لم تتجاوز هذا الاستثناء فقط لكنها نقلت مدارس ثانوية بأكملها إلى ميدان الحرب بعد أن غيرت تسمية مؤسسات التعليم من (مدارس) إلى (ثكنات).

كان قريبي الذي عرض فكرة الذهاب إلى السينما شرطياً يتمتع بمواهب في توليد الفكاهة والتعليقات المرحة والجرأة على إرباك الآخرين، فسألني إذا ما كنت أحمل بطاقة التأجيل، وحين أجبته بالنفي مسك يدي وانطلق بي إلى الباب الجانبي في السينما فوجدناه مقفلا بجنديين عملاقين من الشرطة العسكرية، فسلم على أحدهما وعانقه بالأحضان وسأله عن أحوال العائلة، ولم يعطه فرصة للتبين، ثم أشار إلى أني معه فسمح لنا الجندي المرتبك بالخروج، وأمام السينما كانت تقف حافلات عسكرية ضخمة، وكان الشبان ينقلون إليها. وبالطبع في تلك الظروف سيجد بعضهم نفسه في الخطوط الأمامية للمعارك حتى وإن لم يحمل السلاح في حياته يوماً، ولا أعرف ماذا حدث لهم، وربما بعضهم تاه في الصحراء أو قُتل هناك، وآخر ما يذكره من وطنه مشاهد الثلث الأول من فلم الدستة القذرة.