Atwasat

منع الكحول وآفة الأحزاب في ليبيا الحديثة*

سالم العوكلي الثلاثاء 07 مارس 2023, 01:37 مساء
سالم العوكلي

تطرقتُ في مقالةٍ سابقةٍ للحملة التي قامت بها الأجهزة الأمنية مدعومة بقوة من الجيش على أحياء في بنغازي سيطر عليها تجار المخدرات والكحول، وأكثر ما لفت أنظار المتابعين في هذه الحملة صور الكميات الهائلة من الخمور المستوردة والمصنعة محلياً التي تم كشفها، ما يبيّن القدر الهائل من الزبائن لهذه الخمور في مدينة واحدة من مدن وقرى ليبية أخرى تستهلك الكميات نفسها.

وهو مؤشر على ظاهرة في هذا المجتمع تستحق التوقف عندها، خصوصاً أنها ليست جديدة ولا طارئة، غير الأخبار التي كانت تتوارد مراراً عن تعرض شبان للموت أو فقد البصر بسبب التسمم الكحولي، وهي أمور تجعلنا نطرح أسئلة لابد منها حيال هذه الظاهرة، التي مازالت تعالج بطريقة ملتبسة تحت قوانين التجريم أو التحريم دون أن تحقق الهدف منها.

علاقة الليبيين قديمة جداً مع هذا المزاج، ومنذ قرون كان عصير أشجار النخيل (اللاقبي) ومنقوع التمر خمرهم، لكن مع مجيء الطليان، أعطت السلطات الإيطالية امتيازات لتصنيع بعض المشروبات الكحولية في ليبيا، ومنها بيرا أويا المسماة باسم طرابلس القديم، والنبيذ وردي مسة المسمى على إحدى قرى الجبل الأخضر، حيث مازالت في الجبل خرائب مَعاصر النبيذ قائمةً بأطلالها حتى الآن، تحيط بها مزارع العنب من كل جهة. وهذه المصانع أقيمت فترة حكم بالبو.

وكان زبائنها من الطليان المترفين، ومن أعيان المدن الليبيين، وبعض شيوخ القبائل، حيث ارتبط احتساء المشروبات الكحولية بالطبقة الأرستقراطية والنخبة حتى نهاية الستينيات، قبل أن تدخل على الخط المصانع الشعبية السرية التي اشتهرت خمورها بأسماء مثل، بوخا أو قرابا وتاكيلا، إضافة إلى مشروب اللاقبي المحلي الذي كان منتشرًا منذ قرون في الجنوب الليبي وبعض مناطق الساحل حيث تكثر أشجار النخيل.

منذ الشروع في تأسيس الدولة الليبية، وما بعد الاستقلال وتكوين الدولة الليبية الوطنية، وفي العهدين الملكي والجمهوري، صدر قانونان يخصّان المشروبات الروحية، الأول قبيل إعلان الاستقلال بشهور تحت اسم «قانون مراقبة المشروبات الروحية والمواد المسكرة رقم 3 لسنة 1951» . وصدر الثاني بعد انقلاب 1969 بأربع سنوات تحت مسمى: «قانون رقم (89) لسنة 1974 بشأن تحريم الخمر وإقامة حد الشرب».

وهنا نتوقف عند أول مفارقة في هذين القانونين، فالأول صدر في ظل مَلَكية محافظة ذات مرجعية دينية، أسس دولتها وتشريعاتها رجال كهول على رأسهم الأمير إدريس السنوسي، لكن القانون الأول يسميها "مشروبات روحية"، ويشي عنوانه بأنه كان يسعى إلى تنظيم هذا الشأن من خلال إدارته ومراقبته.

بينما الثاني صدر عن نظام (جمهوري ثوري) يقوده شُبان، وأفتى بالتحريم المطلق لما سماه "الخمر"، وإقامة الحد حسب عنوانه الرئيسي، وكان الحد هو الجَلْد كما ورد في الشريعة الإسلامية، وهي مفارقة تضعنا أمام سؤال يتعلق بمدى حقيقة أو عمق النظم الجمهورية التي استوردت لهذه المنطقة.

دون أن تستورد قيمها الأساسية المتعلقة بتنظيم الحريات وليس منعها، غير أن التلفيق الذي حصل في هذه المنطقة لم يتعامل سوى مع الرنين الجاذب لمصطلح (الجمهورية) وحافظ على كل المحتوى التقليدي للدولة الرعوية في جمهوريات العرب التي في النهاية أفضت إلى سيناريو نظام التوريث الجمهوري الذي أوقف معظمه الربيع العربي، بينما في ليبيا هرب النظام من ضغوط تسمية الجمهورية إلى ابتكار نظام رعوي متخلف سماه الجماهيرية لكي يقفز فوق متطلبات الدولة الحديثة، وعاد بالدولة إلى نظام الإقطاعية النفطية التي يقودها فقيه مُطاع تتحول كل هلوساته إلى قوانين.

بما فيها إصراره على سَنِّ قانون الخمر المتشدد، وتطبيقه حتى على غير المسلمين، والذي عارضه فيه بعض رفاقه، باعتبار أن سَن هذا القانون سيجعل فيما بعد من الصعب إلغاؤه، أو حتى تعديله، إذا ما تطلبت الظروف الاقتصادية والتنموية العودة إلى مراقبة المشروبات وليس منعها قطعياً.

من المواد التي ترد في القانون الملكي الأول: "المادة (3) : يكون محظوراً من تاريخ سريان مفعول هذا القانون على أي شخص مسلم، أن يشتري أو يقبل كهدية أو خلافه أو يتعاطى أي مشروب مسكر أو مادة مسكرة. المادة (4) : محظور على أي شخص أن يبيع أو يقدم أو يعطي أي مسكر أو مادة مسكرة إلى أي مسلم وهو يعلم بأن ذلك الشخص مسلماً [كذا]. المادة (6): (1) أي شخص يخالف المادة 3 من هذا القانون، يرتكب جريمة، ويكون معرضاً للحبس لمدة لا تقل عن أسبوعين ولا تزيد على ثلاثة أشهر. (2) أي شخص يخالف أحكام المادة 4 من هذا القانون.

يرتكب جريمة، ويكون معرضاً لدفع غرامة لا تقل عن عشرة جنيهات مصرية، ولا تزيد على عشرين جنيهًا وعلاوة على ذلك يكون معرضًا للحبس لمدة لا تقل عن أسبوعين ولا تزيد على ثلاثة أشهر، وإذا كان ذلك الشخص يحمل رخصة لبيع المشروبات والمواد المسكرة، أو كان أي شخص يستخدمه أو يساعده.

فيغلق المحل حامل الرخصة لتلك المدة التي يأمر بها وزير الداخلية، وفي حالة تكرار المخالفة، فتُلغى أية رخصة ممنوحة له لبيع المشروبات أو المواد المسكرة. (3) لوزير الداخلية أن يأمر في أي وقت كان بعدم تجديد أو إلغاء أية رخصة لبيع المشروبات الروحية بالجملة أو القطاعي الممنوحة بمقتضى الفقرة الأولى من المادة الخامسة من منشور المشروبات الكحولية رقم 154 في 26 نوفمبر سنة 1947 أو بمقتضى أي منشور آخر.".

ووقِّع هذا القانون باسم: محمد إدريس المهدي السنوسي (إدريس الاول) - ملك مملكة ليبيا المتحدة وأمير برقة.

أما "قانون رقم (89) لسنة 1394 هـ /1974م بشأن تحريم الخمر وإقامة حد الشرب"، الصادر بعد مرور ثلاثة أعوام تقريباً على عصر ما سمي (الجمهورية)، وأحد الموقعين عليه (عبدالسلام جلود)، فيبدأ بديباجة تقول: "باسم الشعب، ومجلس قيادة الثورة، ونزولاً على أحكام الشريعة الإسلامية الغراء، واستجابة لرغبة الشعب العربي المسلم في الجمهورية العربية الليبية... وبعد الاطلاع على الإعلان الدستوري. وعلى قرار مجلس قيادة الثورة الصادر في 9 رمضان 1391 هـ الموافق 28 أكتوبر 1971 م بتشكيل لجان لمراجعة التشريعات وتعديلها بما يتفق مع المبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية."

وتنص بعض مواده على ما يلي: "مادة (5): حد شرب المسلم للخمر: كل مسلم شرب خمراً يعاقب حداً بالجلد أربعين جلدة. مادة (6): تعاطي المسلم الخمر عن غير طريق الشرب: كل مسلم تعاطى ولو بغير الفم خمراً خالصة أو مخلوطة بأي وجه كان، يُعزر بالجلد بما لا يقل عن عشر جلدات ولا يجاوز ثلاثين جلدة.".

والقانون ممهور باسم مجلس قيادة الثورة، وبعد 20 سنة، أُلغِي هذا القانون أخذاً بالرأي الفقهي الذي يعتبر جريمة شرب الخمر جريمة تعزيزية، فصدر القانون رقم (4 لسنة 1994) في شأن تحريم الخمر، ولأن العقوبات التي وردت بالقانون رقم (4 لسنة1994) لم تكن رادعة، ولم تؤدِ الغاية منها، حصوصاً بين ميسوري الحال من الطبقات الثرية والمتوسطة، صدر (القانون رقم 20 لسنة 1995 م بشأن تعديل بعض أحكام القانون رقم 4 لسنة (1994 ) في شأن تحريم الخمر)، وأصبحت جرائم الخمر من الجنايات، حيث وصلت بعض العقوبات إلى السجن المؤبد والإعدام.

يتضح من القانون الأول الذي جرَّم شرب "المشروبات الروحية" بالنسبة للمسلمين فقط، ويمكن تأويله في حالة الشرب في أماكن عامة، أنه يعكس توجهاً دينياً معتدلاً، وعمليا في زمنه، بينما القانون الثاني الذي صدر بعد ظهور النفط، ثم تعديلاته المتتالية، رغم أنها تعتمد الشريعة، إلا أنها، إضافة لتحول الاقتصاد إلى ريعي، تعكس مزاجاً بدوياً حيال الخمر، يفسر مدى التشدد في العقوبات التي تتجاوز حتى الشريعة. وما يؤكد علاقة المزاج البدوي ــ أكثر من الديني ــ بهذا التشدد، أن منع الخمر الذي قضى النص القرآني باجتنابه بعد التدرج في الأحكام الخاصة به، مقتصرٌ، الآن، على الدول ذات الأصل والبنى البدوية والاقتصاد الريعي.

بينما هذا لا يرد في المجتمعات الإسلامية الحضارية وذات الدخل المتنوع، رغم ما تزخر به من جامعات إسلامية عريقة، وتراث فقهي مهم، وعلماء شريعة، مثل مصر وتركيا وتونس والمغرب ودول آسيا الوسطى الإسلامية وماليزيا وأندونيسيا وغيرها، حيث فيها تحل المراقبة بدل التجريم المطلق.

ومثلما زخرت فترات الدول الإسلامية؛ كالدولة الأموية، والعباسية، والأندلسية والفارسية، بالشعر الذي يتفنن في وصف الخمور والتغزل بها، لدرجة أن بعض مؤرخي الأدب يعتبرون الحضارة الإسلامية هي الحضارة الوحيدة التي أنتجت مجلدات ضخمة في شعر "الخمريات" إبان إزدهار الإسلام وتوسعه، وتحت سلطة أمراء المؤمنين، وحتى، حين حكمت حكومات تتبع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، تحمل شعارات دينية متشددة، في مصر وتونس والمغرب، لم تفكر في إصدار قوانين لتحريم الخمر بالمطلق، أو قفل محلات بيعه، لأنها تدرك أنها دول ليست ريعية.

وهو واقع ربما يقربنا من كون هذا التشدد راجع للبداوة وطبيعة المورد الاقتصادي وليس الشريعة فقط.

وما يعنيني، أننا أمام ظاهرة مستفحلة من عقود عديدة، بل من قرون، تمثل إشكالية لها أسبابها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية والتشريعية، ما يوجب دراستها كظاهرة والبحث عن حلول ناجعة لها.

*العنوان مقتبس عن قصيدة محمود درويش: "مديح الظل العالي"، التي يقول فيها: "والأيديولوجيا مهنة البوليس في الدول القوية/ من نظام الرقّ في روما/ إلى منع الكحول وآفة الأحزاب في ليبيا الحديثة.. !".