Atwasat

حدوتة مصرية

جمعة بوكليب الأربعاء 01 فبراير 2023, 01:25 مساء
جمعة بوكليب

الحدوتة المقصودة، حدوتة سينمائية. رواها المرحوم يوسف شاهين في شريط سينمائي جميل، شاهدته للمرة الأولى مؤخراً.

ورغم وصفها بالمصرية؛ فإنها حدوتة إنسانية عابرة للحدود وللجنسيات، ولكل الحواجز بين البشر، رُويت بلغة سينمائية راقية. الحدوتة تحكي قصة واحد منا، من أي بقعة في هذا العالم، صادف وإن كان فناناً موهوباً، أراد أن يحقق طموح حياته في الفن، واختار مجال السينما والتمثيل.

فصار ممثلاً ومخرجاً ناجحاً، بشهرة عالمية.

الكتَّاب يكتبون سيرهم الذاتية، ومنها نتعرف نحن، عبر القراءة، على مسارات حيواتهم، صعوداً وهبوطاً. ويوسف شاهين ليس كاتباً، بل مخرج سينمائي بتجربة تستحق أن تُروى. وفي فيلم حدوتة مصرية، قدم لنا جزءاً من سيرة ذاته الموهوبة والطموحة، وعبرها نفذ بنا إلى تاريخ مصر، في واحدة من أهم حقبها التاريخية.

حيث يتداخل التاريخان الذاتي بالعام، في ديناميكة مدهشة.
المرحوم يوسف شاهين حكّاء بارع. يعرف، عن طريق الصورة والحركة، كيف يصل إلى المشاهد، من أقصر الطرق وأجملها، وبأبرع التقنيات السينمائية. وروى لنا، بلغة الفن، حدوتة مصرية بامتياز.

الحدوتة غالباً ما تنتهي نهاية سعيدة. وحدوتة شاهين لا تختلف. كانت، هي الأخرى، بنهاية سعيدة.

ليس لأنه نجا من الموت بنجاح العملية الجراحية، التي أجريت له في مشفى بلندن؛ بل لأنه وضع نهاية لمشوار العداء لطفولته ولشبابه واستعاد الطفل الذي كان. وفي آخر لقطة من الفيلم تقول له الممرضة الإنجليزية، إنها لا تريد أن تتركه وحيداً، فيرد عليها قائلاً: لم أعد وحيداً.

ما شدني في الحدوتة/ الفيلم، هو التوق إلى كسر الحواجز والحدود، والخروج من ضيق النجاح محلياً، إلى انفساح الشهرة دولياً، والحظي باعتراف العالم. والعالم المقصود هو العالم الغربي تحديداً. وهو طموح مشروع.
المرحوم يوسف شاهين إسكندراني مصري ولد برغبة أن يكون ممثلاً ومخرجاً عالمياً.

والطريق إلى العالمية ليس سهلاً، كونه مقترناً بتخطي الحدود، والوصول إلى عواصم الغرب، بأمل الحصول منها على الاعتراف به. لسببين: الأول يتعلق بما يمثله الغرب والحضارة الغربية في مسيرة التطور الحضاري الإنساني، في حقبته الحديثة والمعاصرة، وتأثير ذلك في عقول أبناء العالم الثالث عموماً، ونخبته السياسية والثقافية والأدبية والفنية خصوصاً.

والثاني أن الفن السينمائي غربي، وليكتسب الاعتراف بموهبته مصداقية، لا بد أن يأتي من هناك.

والفنانون والكتَّاب من على العالم الموصوف بالثالث، على اختلافهم، عادة، ينظرون بأعناق مرفوعة إلى أعلى، نحو ذلك العالم الغربي، ومن يمثله في الثقافة والأدب والفن. تلك الهالة الغربية الساطعة في سماء الكون، والصعوبات التي تعترضهم، جعلتهم يرضون بدور المقلد/ التابع. يتلقفون ما يبدعه فنانو وكتَّاب وفلاسفة الغرب، ويقتفون أثرهم.

وفي انتظار أن يحظى يوماً بهم الغرب. والقلة الذين نجحوا منهم في اختراق ذلك الحاجز، اكتشفوا، في فترة مبكرة، أن الظلال لا تصنع أدباً أو فناً ولا تخلق وتؤسس لثقافة.

وأن عليهم البحث في تواريخ بلدانهم، وآدابها وثقافاتها، إن أرادوا الوقوف على قدمين ثابتيين على الأرض. اللافت للانتباه، أن ذلك البحث عن الذات، وعن تحقيق الطموح الشخصي، أي تمازج العام والخاص، كان عبر وسائل وأدوات ومناهج وإبداعات الغرب. وكان عليهم أن يحفروا في تاريخهم وثقافاتهم، وفي تقاليدهم وآدابهم. ثم إعادة تفكيكها وتركيبها من جديد، بما يتناسب ولغة الحداثة وأساليبها التي أبدعها العقل الغربي.

المرحوم نجيب محفوظ، على سبيل المثال لا الحصر، كان واحداً من هؤلاء. وفوزه بجائزة نوبل للأدب، كان تتويجاً لجهد روائي بناه بدأب عبر سنوات طويلة. لكن الرواية التي اختارها وسيلة للتعبير ولتحقيق الذات واختراق الحدود، فن غربي.

وهذا ما نقصده. سعى محفوظ إلى إعادة كتابة تاريخ الحارات المصرية روائياً، وأن يقدمه للمصريين ليزدادوا معرفة بأنفسهم وبتاريخهم، ثم للعرب وللعالم. لكنه أنجز ذلك عبر عينين مصريتين، وبوجدان مصري، وبأحلام ورؤى مصرية.

وغاية يوسف شاهين أن يعيد كتابة سيرته، وتاريخ بلاده سينمائياً، والسينما فن غربي. وأن يقدمه لجمهوره المصري والعربي وللعالم. ومثل محفوظ، من خلال عينين مصريتين، وبقلب مصري، وأحلام مصرية.

وليس عيباً لجوء كاتب أو مخرج أو فنان، من العالم الثالث، إلى استيعاب أساليب وأدوات مناهج الأدب والفن في الغرب واستخدامها، بل هو ضروري. العيب في العجز عن الخروج من دور التابع/ الظل، والرضا بمواصلة الدوران في المدار نفسه.