Atwasat

بدل المناطحة

رافد علي الثلاثاء 10 يناير 2023, 05:53 مساء
رافد علي

لم يكن مصطلح الإسلام السياسي وليد لحظة كتابية فارقة للمستشار محمد سعيد العشماوي الذي أخرجه علنيا في كتاب حمل الاسم ذاته بالثلث الأخير من القرن الماضي، فلقد عرف الاستشراق الفرنسي ذات المصطلح بذات اللحظة تقريبا، فكان غوستاف لوبون 1841-1931 كثيرا ما يستخدم المصطلح في أروقة الجامعة وكواليس الندوات وبصالونه الثقافي الشهير حينها، في الوقت الذي عانت فيه مدن عربية كثيرة. كان التزواج الإسلامي في أفغانستان حالة استلاد محوري لنهج التطرف الديني إسلاميا تحت حماية ورعاية دولية، ونقص تعاطي أنظمة العرب السياسية مع نمو التطرف ببلادهم بتدابير الثقافة والمكاشفة، على حساب تعزيز تدابير المعالجات الأمنية.

ما يُجرى اليوم من حملات إعلامية مناهضة للتطرف الديني والإسلام السياسي بشكل عام يجسد الوصول لنقطة الشعوبية في التعاطي مع قضيتي الإرهاب والتطرف بالعالم الإسلامي، ولا يعني بالمطلق أن المسلمين قد انهمكوا في مكاشفة حقيقية ورصينة مع الهوية والتاريخ والواقع لخلق وعي حقيقي لحاضرنا الإشكالي، ونفضل التمترس في خنادق انتماءاتنا الضيقة والمسيسة دينيا، كسني وشيعي من جهة، وديني ودنيوي من جهة أخرى.

فالعاطفة هي التي تقود المجتمعات وتغيرها أكثر من العقل وفق مفاهيم «سيكولوجيا الجماهير»، وبقي الخطاب الديني ممتنعا عن تكفير داعش، وتجنب نقد دولتها فكريا وبشفافية ضمن تفاعلية رصينة وفاعلة أمام هول ما جرى ويجري.

رغم معارضة التيارات الإسلامية بالمنطقة العربية لمصطلح الإسلام السياسي، بكونه مصطلحا وافدا يقوم على تجزئة الإسلام، الذي يُعتقد التيار المحافظ بشموليته كمنظومة عامة وجامعة، إلا أن المصطلح ترسخ كمفهوم عام، مشيرا بدلالته النقدية لقصور حاد في الطرح السياسي لهذه التيارات في بناء الدولة، والتي جادل أنصار التيار المحافظ، في أحيان كثيرة، بأن الإسلام يأتي للسياسة لأجل زرع نزعة أخلاقية في السياسية، الأمر الذي نفاه الطرح الأكاديمي عديد المرات من خلال نقد أخلاق الحداثة، عبر المجادلة بـ «بؤس الدهرانية» الرامية لزرع جرعات روحانية في الحداثة ذاتها، أو عبر جدلية «الدولة المستحيلة» التي تنتقد دولة الحداثة بشكل موسع وشامل، وتجادل التيارات الإسلامية المسيسة، بكل أطيافها، بأنها لن تفلح في خلق دولة بطبيعتها الحداثية الراهنة. هذه لمحة سريعة وموجزة عن حالة الجدال بين التيار الديني ونقاده من الناحية النظرية.

أما الواقع العملي للإسلام السياسي في الحكم وممارسة السلطة، من جهة أخرى، فهو يكشف عن فشل ذريع وبيّن، ويتجلى ذلك في تحالف حسن الترابي سياسيا لسنوات عديدة مع انقلاب عمر البشير بالسودان، إذ ظهر الفشل لجماعة الترابي الإسلامية وحلفائهم في الانقلاب على مستويات السياسة والتخبط فيها، داخليا وإقليميا، وشيوع الفساد بالمنظومة السودانية حينها، واتضح، بالتالي، خيالية الخطاب الأخلاقي الديني للجماعة الإسلامية بالسودان وانحطاطها سياسيا، الأمر الذي أحرج كثيرا قادة التيارات الإسلامية بالمنطقة العربية، كالغنوشي على سبيل المثال، الذي ابتعد عن الترابي بعد تقارب كبير، توج بإصدار «الحركة الإسلامية والتحديث» ككتاب مشترك بين الرجلين، وراحت الحركات الإسلامية ذاتها تولي نظرها، تباعا، للإسلام السياسي في تركيا وآسيا.

المستشرق المعاصر فرانسوا بورغا، الذي قضي سنوات طويلة بالمنطقة العربية، وكان على تواصل مباشر ووثيق مع رموز الحركات الإسلامية بالجزائر وتونس وليبيا ومصر واليمن ودول الشام والخليج، وكتب عنها مؤلفات عديدة، يستخدم مصطلح الإسلام السياسي بلا أي تردد، رغم معرفته بعدم الترحيب بالمصلح في صفوف الإسلام المسيس، إلا أنه كان يكتب دائما بعيدا عن أسلوب «شيطنة الآخر»، وظل نقده الشديد للإسلام السياسي معنيا، في عموم الحال، بحالة عزوف الحركات الإسلامية المنخرطة في السياسة عن خلق رؤية سياسية عملية، بدل اللهث نحو السلطة ضمن نهج بورغا الأكاديمي المتعاطف مع الإسلام وأهله بشكل عام.

التجربة الفاشلة للإسلام السياسي بالمنطقة العربية تحديدا تدعونا دائما للحيطة منها، خصوصا أن المهتمين بشؤون الحركات الإسلامية العربية، بعد الربيعيات، قد أقروا بضرورة أن يبتعد التيار الديني عن السياسة، وأن ينهمك في مراجعة الذات، وأن يسعى لخلق كوادر فكرية، بدل الارتجال والسعي الأعمى للحكم والسلطة. من أبرز الشخصيات التي تبنت هذا الموقف، الدكتور عبدالله النفيسي في لقاء متلفز منذ أشهر قليلة مضت، مبينا بضرورة الإقرار بالفشل في عملية التحول الديمقراطي بالمنطقة، ومعللا ذلك بأن التيار الإسلامي بالمنطقة يعوزه كادر سياسي متمرس، وإن القادة أغلبهم حزبيون، تربوا على نهج أخلاقي وديني، داعيا في تصريحاته ذاتها، كل أطياف التيارات الإسلامية للانسحاب التدريجي من المشهد السياسي، بدلا من الاستمرار في المناطحة والتعنت مع اشتراطات النظام العالمي.