Atwasat

المجنون عمر الككلي

محمد خليفة الإثنين 12 ديسمبر 2022, 01:15 مساء
محمد خليفة

في سنة 1970 طرد الحزب الشيوعي الفرنسي أحد أشهر أعضائه ومفكريه، وهو روجيه غارودي، ناضل هذا الأخير ضمن صفوف الحزب لثلاثين سنة، ووصل باسمه إلى منصب نائب رئيس البرلمان الفرنسي، وكان لواقعة الطرد من الحزب أثر قاسٍ على نفس غارودي ومشاعره، حتى إنه فكر في الانتحار، لكنه غيّر رأيه، وعوضًا عن الانتحار التحق بدوره من دورات علم النفس، وكانت مدتها ستة أشهر.

يقول غارودي إنه اكتشف مع نهاية الدورة أن الجنون ليس دائمًا قلة عقل، بل قد يكون الأمر على العكس من ذلك تمامًا، إذ قد يكون الجنون طفرة في العقل وليس نقصًا فيه أو غيابه بالكامل.

ومن المصابين بهذا النوع من الجنون عمر الككلي، وقد لمسته عنده في مناسبات منها ما بدا عارضًا، لكنها، في مجملها، معبرة عن الجنون الناتج عن زيادة في العقل وليس نقصه.

ويأخذ الإفراط في العقل عند الككلي بعض صور الإطلاق، من نوع المساواة المطلقة، والحرية المطلقة.

ومن صور المساواة المطلقة عند الككلي طلبه المساواة بين الذين قتلوا جماعيًا برصاص أجهزة القذافي في ما عرف بمجزرة أبي سليم، والذين ماتوا موتًا جماعيًا لشربهم خمورًا سامة، في عصر ما بعد القذافي، وصورة الإطلاق عند الككلي في هذا الموقف هو اعتماده على أن القتل في الحالتين قد تم بفعل فاعل، ولم يتوقف عمر عند الأسباب أو الدوافع، أو ما إذا كان من قام بالفعل أجهزة ما يسمى "الدولة" أو جهة أخرى.

كل ما توقف عنده الككلي هو أن أرواحًا بشرية قد أزهقت بغير وجه حق، وهذا مطابق للواقع، غير أن المطالبة بأن تكون ذكرى من ماتوا لشربهم خمرًا مسممة مناسبة تذكر سنويًا قد بدا لي مضحكًا، ولقد ضحكت بالفعل في حينها، لأن هذا المقترح لا يصدر عن غير مجنون، من المجانين الذين يكتبون قصصًا قصيرة.
لو طُلب مني وصف أعمال الككلي، بصفتي قارئًا لا أكثر، فسأقول إن هذا المجنون أفضل من عبّر عن المرارات التي تجرعها الإنسان الليبي عندما تحولت ليبيا إلى منابت للحنظل، بعد أن كانت تفتح أمام أبنائها أفقًا واعدًا بكل رفاهية وسعة عيش، وقد جاء تعبير عمر عن تلك المرارات صادقًا لأنه عاشها ودفع ثمنها، فهو لم يصفها عن بعد أو إشفاقًا على من عاشها بعيدًا عنه.

ومما يذكر لهذا الرجل أنه لم يتقاضَ ثمن نضاله ولم يدخل بتاريخه سوق المزايدات، عاش الككلي، ولا يزال يعيش، مثل كل المجانين: وفيًا لمبادئه المطلقة، وصادقًا في التعبير عن آرائه وقناعاته التي قد لا تعجب عاقلاً...! لكن ذلك لا يخل بواجب الاحترام لرجل ما زادته المحن إلا عقلاً حتى حسبته من فرط العقل مجنونًا.