Atwasat

ريت.. ريييت (6)!

محمد عقيلة العمامي الإثنين 14 نوفمبر 2022, 02:44 مساء
محمد عقيلة العمامي

كان قانون ولاية طرابلس يمنح تراخيص للحانات، ولا يمنع تناول الخمر، وأعتقد أن ولاية فزان أيضاً نفس الشيء، أما بنغازي فلها قانون يحرمها، فلقد كان لكل ولاية قوانينها.. ولعله من المفارقات التي واجهها قرار إلغاء العمل بالنظام الملكي الفيدرالي، وقيام نظام المملكة الليبية المتحدة، هو إما إلغاء بعض فقرات من القانون التجاري الذي يسمح بالخمارات وبيع الخمور، أو السماح به في ولاية برقة، وكان الرأي العملي، حينها، أن يسمح.. لكن الشيح عبدالحميد الديباني، الذي كان مفتي ولاية برقة، قال، وباختصار شديد: «إنه لا يجوز تحليل ما حرمه الله..» فبات الرأي على أساس القوانين السارية بشأنه أيام الولايات: السماح به في طرابلس، واستمرار حظر تناوله للمسلمين في شرق ليبيا، لأن قوانين الولايات أقرت، بحسب الحال الديمغرافي، فلم يصدر في غرب ليبيا قانون بتحريمه، وأن يستمر الحال على ما هو عليه، وهكذا كان الأمر متروكاً لقرار رجال البوليس، قبل أن يصبحوا شرطة! ويحكى أن بوليس شاهد أحداً يخرج بزجاجة ملفوفة في صحيفة من محل بيع الخمر في بنغازي، ولما استوقفه، استند صاحب الزجاجة على الحائط محافظاً على الزجاجة أن تستقر في حفرة في الحائط، مستنداً عليها وممسكًها بظهره، وانتبه الشرطي له، فأمره بأن يبتعد عن الحائط، فأجابه سريعاً: «حرام! سوف تسقط وتنكسر..».. فضحك البوليس وتركه يذهب بها.

وتجدر الإشارة إلى أنه كان في بنغازي مصنع (شويرب المالطي) للخمور وفي مسة بالجبل الأخضر كان هناك مصنع للنبيذ، ولم تكن في المنطقة كلها مصانع محلية تدار في الخفاء لتقطير الكحول، والحقيقة أنها انتشرت من بعد وصول العمال البولنديين الذين وصلوا مع الشركة التي نفذت مدينة المرج، من بعد أن ضربها الزلزال مساء ليلة 21 فبراير 1963.

ومن المفارقات المضحكة، قصة سمعتها من ثقة: أخبرني أن قاضياً ليبياً كان له مزاج في احتساء الخمر، وكان يبعث بحاجبه إلى مصنع المالطي (شويرب) الذي كان ينتج الثلج والمياه الغازية وأيضاً بعض الخمور والنبيذ، وكان مقره خلف المسرح الشعبي تماماً.. عاد الحاجب بما طلبه القاضي، لكن أحد رجال البوليس أمسك به، وبـ(المبرزة) وهي زجاجة الخمر، قبل وصوله إلى القاضي، وأخذه إلى مركز المدينة، وقضى ليلته في الحجز، وفي اليوم التالي أخذه البوليس، كالعادة، إلى النيابة التي أحالته بدورها إلى المحكمة، وكان بالمصادفة أن قاضيه هو من بعث بالحاجب لشراء زجاجة الخمر، ولما وقف أمامه، انتبه للمشكلة، وعرف سبب عدم مجيء الحاجب إليه في اليوم السابق، فما كان منه إلاّ أن عنفه ونصحه أمام الحاضرين في تلك الجلسة، مردداً: «أنه من المخجل أن يفعل ما فعلت، رجل في مثل سنك..» واستمر يعنفه وينصحه، فيما كان الحاجب يردد بصوت عال: «هبّيِ، هبّيِ!» وهي عبارة متداولة ساخرة، لمن يتلاعب بالألفاظ. انتهت الجلسة من بعد تعنيفه، والعفو عنه شريطة ألاّ يعيدها مرة ثانية! فأجابه سريعاً: «وأنت أيضاً (ما تعاودهاش)».

مشكلة الخمر، عايشتها ليبيا كلها منذ منع تماماً في ليبيا كافة منذ اليوم الثالث من شهر سبتمبر 1969، ولا تزال تعايشها، ولا ينبغي أبدًا أن يقول أحد إنها ليست مشكلة.. وأنا أتفق تماماً، على أنه محرم، وأنه لا فائدة تعود على من يدمنه، لكن لا يمكن تجاهل هذه المشكلة، لأنها ببساطة سلوك، مثل الكثير من السلوكيات الأخرى المحرمة في الإسلام، فالسرقة محرمة، وقتل النفس بلا ذنب محرم، والخطف والتنكيل والفدية محرمة.. لكنني انتقيت الخمر لأنه سلوك عاصرته بامتداد العهود الثلاثة: الملكية، والجماهيرية، وهذه التي لم نستقر على حال، حتى الآن، لتسمى به، على الرغم من أنها تساوت زمنياً مع النظام الملكي!

لقد انتقيت هذا السلوك المحرم، والمكروه، لكنه واقع مرغوب، على الرغم من (قُبحه!) لسبب بسيط، وهو أن النظام الجماهيري لم يستطع أن يسيطر على منعه طوال 42 عاماً، ولم يستطع هذا العهد أن يسيطر عليه طوال 11 عاماً وتمكنت دولة الملكية الفيدرالية السيطرة عليه، ولم تصل مصائبه من السماح به أو منعه ما وصلنا إليه الآن!
مشكلة الخمر مرت بها العديد من دول العالم، منها الولايات المتحدة الأميركية، إذ منعته ما بين سنتي 1920-1933 ومن مصائب ذلك أنها كان سبباً رئيسياً في تغول المنظمات الإجرامية ونشأة السوق السوداء، بل إليها ينسب ظهور(أل كابوني) أشرس العصابات الأميركيين، وارتفعت نسب الفساد بين السياسيين وأجهزة الأمن.. ومنعت الخمر في أستراليا والهند، وكندا، والنرويح، فنلندا على الرغم من كونها ليست دولا إسلامية، وممنوعة أيضاً في العديد من الدول الإسلامية، لكنها متوفرة! وبقوة بل منها ما بلغت سلطة مهربيه إسقاط وإنجاح سياسيين وقادة!

أمر الخمر انتهى بتقنين بيعه والسيطرة عليه تحت إشراف مباشر ودقيق من أجهزة الدولة، في العديد من الدول الإسلامية، هذه الدول انتبهت أن مصائب المنع أكثر بكثير من السيطرة المنظمة عليه، ولذلك أوجدت حلولا. الخوض في استعراض ما حدث وما قام به السلف الصالح، لا يلغي مطلقاً مغبة منعه بتاتاً.

عموماً أنا مع الذين يعون جيداً أنه محرم، وسلوك معيب، ومتعب ومفسد، لكن ذلك لا يجعلنا ألا ننتبه إلى مغبة منعه.. البعض يرى أن إحكام الرقابة وتقنينها، وإنفاق عوائدها على معالجة أمراض المجتمع، على سبيل المثال، أفضل بكثير من إنفاقها على عصابات الأسواق السوداء، إذ بأموالهم أسقطوا حكومات خيّرة.