Atwasat

تعالوا نسكن البركة!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 19 يوليو 2022, 11:54 صباحا
أحمد الفيتوري

• بيتي في البركة
عدت والعود أحمد، إلى بيتي بحي البركة في مدينتي بنغازي، ما تغير حتى شان، البركة حي نصف شعبي، حي الطبقة الوسطى منذ سالف الأيام، ومساكن هذا الحى في الغالب معمارها قديم، منازل ليبية فيها ما فيها من طُرز عثمانية، ولا أقول تركية!: المدخل قوس حجري بزخرف أحياناً، والباب بابان في باب، قوسان، يدعى في الجملة «باب بوخوخة»، على الباب الصغير، الذي هو لدخول البشر، مدق بوجهي الإله الروماني جانوس، وكذا حدوة حصان لدرء العين والحسد، لون البابين أخضر في العادة.

تجتاز الباب، فتلتقيك السقيفة المستطيلة، التي تحولك، إن كنت ضيفاً، للمربوعة، وشكلها في اسمها ومساحتها، المربوعة تدل على صاحب البيت، الشيخ، الوجيه، الثري: مضيفتهم واسعة وفيها تكايا، والمساحة الضيقة لغير هؤلاء. للسقيفة مدخل مقوس، عادة ما يفصل البيت بشرشف، يحجز النظر لصحن البيت، ما لا سقف له، وقد تكون فيه بئر ونخلة، تطل على هذا الصحن، غرف نوم مستطيلة مساحتها صغيرة، وأبوابها حيز لمفرد، أما النوافذ فكوة للتنفس.

في جانب من الصحن، كنيف ضيق، ومطبخ أضيق، مما يجعل النسوة في الملمات يطبخن في وسط البيت، الذي يبنى في مجمله من الحجارة والجير. الحيطان في عرض نصف متر، والأسقف من جذوع النخيل وتبن البحر والطين، يسمى نوع البناء هذا «ضرب الباب». كثيراً ما تكون مساحة البيت شاسعة، ولكنه بيت يفتح على داخله، الشمس ضيف ثقيل والهواء أثقل، لأنه يستجلب معه قرينه، العجاج ابن الصحراء المدلل.

هناك منازل، معمارها إيطالي مميز وشهير، ثمة بيت قرب «سينما الزهراء» بالبركة من هذا الطراز الإيطالي، اعتنى به صاحبه وصينه، وأعاد الحياة له، فجعله بهذا يشد الروح، لمن مثلى يغتبط بكل جميل حي قدم. وبيتي عند ختام الشارع الرئيس ببنغازي، شارع الاستقلال، بحي البركة، بيت إيطالي، مالكته في العهد الإيطالي، سيدة إيطالية مسؤولة بالحزب الفاشي، وملكه بعدها السيد المجاهد محمود بوهدمه ثم ملكته. يتميز في معماره بأنه إيطالي - ليبي، أي يجمع بين الطراز المحلي ما أشرت إليه، وبين الطراز الإيطالي الحديث، ومن هذا فرادته. وقد سكنته أول الألفية الثالثة، بعد أن غادرت مسقط رأسي حي الصابري/عرجون الفل.

حين سكنت البركة، سكنت البيت العتيق، ما انغمست في صيانته، حريصاً أن يبقي على ما هو عليه، في وسط البيت غرست كرمة، ومقابلها أضفت نافورة، وعلى جوانب وسط البيت نباتات متنوعة في أصص كذلك. أصبح قلب البيت حديقة ضاجة، يظللها ورق وسيقان وعناقيد العنب. أثناء انشغالي هذا، في استراحة، مر بالخاطر أن حي البركة ما أسكن الآن، سكن كتابا، كتبت عنه لأنه أعجبني، سيرة ذاتية لكاتب ليبي مبدع.
• بركة المقهور!

على عجل من أمره، مر كامل المقهور على البركة؛ كاتب القصة ـ المحامي ـ وإن حط به المقام فترة، فقد شده شغف لمصر، ما منعه وأوقفه وأسكنه بحي البركة، إلا انتشار وباء الكوليرا في مصر مبتدأ الخمسينات. مر الطرابلسي كامل المقهور، على عجل، في سيرته الذاتية (محطات) بمحطته بنغازي، بذلك البيت بحي البركة، منزل شريك الوالد، ما سكن آنذاك، وبقيت هامته مرفوعة في وجه غدر الزمان، خاصة وقد حوته سيرته:

«في البركة منزل شريك والدى، أعيش فيه كما يعيش أبناؤه، أركب معه في سيارته الكبيرة الواسعة إلى مكتبه، أحضر مباريات كرة القدم وأعجب بـ(تعولة)، وألعب الكرة في شوارع المدينة الخالية».

غير هياب ولا وجل، فقد كان محمود إلى جانبي، وكان شوقي، بجسمه العريض وصوته الجهوري وعنته، يخيف حتى الجنود البريطانيين، الذين يحمون كل شيء، بما في ذلك اليهود وتجارة الخردة، يجمعونها من الصحارى يكدسونها في الساحات، يشحنونها على عربات كبيرة كالطود، يجنون منها آلاف الجنيهات، يركبون السيارات الفاخرة، ويقيمون الولائم للسادة السنوسيين وكبار الضباط.

كان عليّ ومحمود أن نبرر بقاءنا في بنغازي، أن يكون لوجودنا عند الرجل الكريم مردود ما، غير لعب الكرة في الأزقة والشوارع، وإيذاء الجيران ومخاصمة الأولاد، ومتابعة مغامرات شوقي في المدينة كأنه يملكها. راجع محمود حسابات تصدير الكاكاوية، فأكتشف خطأ أعاده إلى صواب، ومن يومها صارت له مهمة، أن لا ينام حتى يراجع الحسابات، وكانت الحسابات بسيطة، لا تعدو الجمع والطرح.

كان لابد أن يُطعم، من يريد الدخول إلى مصر، أو من شاء أن يتوقى الوباء، ولو كان بعيداً عنها. أوقفتنا السيارة أمام مستوصف البركة، وأدخلوا في جلود ذراعينا إبرة حادة، ظلت تنتفخ، حتى خلت أنها سوف تنمو أكبر من رأسي. ويومها خفت أن أموت! فلا أنا بالأزهر و لا أنا بـ«صالحه»، ولا أنا بالمحلة.. ولا شيء، سوى حفرة بسيطة، يهيل عليها أناس أغراب التراب، في زاوية منزوية في جبانة مجهولة، توسطها وليّ لا أعرف له اسماً، وينحسر عني ظله ليمتد إلى مريديه!

سافر محمود، فقد كانت له فيزا، وبقيت في انتظار، أن يحل الوباء عن مصر، وأن تفتح الحدود، وأن أنتقل إلى جامع الأزهر. ولفترة الثلاثة أشهر التي انتظرت فيها، وحياة اللهو، والاختلاف إلى المدينة، ومكتب السيد عمر. طفقت صورة الحاج حسن وصالحة، تبهت رويداً رويداً حتى خفت أن تنمحي..!. وبطريقة ما، يعرفها المهربون ورجال الصحراء، قاموا بشحني مع اثنين من طلبة بنغازي، على ناقلة للخردة، لم تعرف طريقاً يمر بالبوابة أو القرى، حتى استقر بها المقام في الإسكندرية.. ويا خاش مصر منك ألوف!.).

أنا أيضاً بعد زمان رددت في القاهرة:.. ويا خاش مصر منك ألوف!.