Atwasat

لغز العدد ثلاثة

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 27 مارس 2022, 10:07 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

كما هو الشأن دائما، لم تتبلور فكرة الأعداد والعد دفعة واحدة، وإنما بشكل متدرج ومع تطور سبل الحصول على متطلبات العيش. إذا يقال أن البدائيين المعاصرين في استراليا لا يعرفون العد إلى ما لانهاية، وإنما يتوقفون عند العدد ثلاثة، ما زاد عن ذلك يطلقون عليه صفة "كثير!".

ويبدو أن الحاجة إلى التوسع في الأعداد تبلورت مع نشوء المجتمعات الرعوية، حيث ضرورة معرفة مالك القطيع عدد أفراد قطيعه.

ومع نشوء المدن وتقسيم العمل، وتشكل السلطة السياسية واختراع الكتابة، تحولت الأعداد من مجرد التداول الشفهي إلى التدوين الكتابي.

ثم تطور الأمر إلى ظهور علمي الحساب والهندسة، ومن ثم أصبح العدد موضوعا للتأمل الفلسفي. ولعل أول من قام بذلك هو الفيلسوف اليوناني فيثاغورس (572- 497 ق. م). فالأشياء لديه* إما أن تكون أعدادا أو أنها تحاكي الأعداد، والأعداد متحدة مع الأشياء. كما أنها تنقسم إلى طائفتين زوجية وفردية، تمثل الأولى اللامحدود (لقبولها القسمة) وتمثل الثانية المحدود (لعدم قبولها القسمة). وعزت الفيثاغورية إلى بعض الأرقام صفات أخلاقية واجتماعية، فالعدد سبعة يمثل وحدة الوقت الكاملة ويمثل العدد أربعة العدالة والعدد ثلاثة يمثل الزواج. أما العدد عشرة فكان مقدسا عندهم.

ونعلم أن بعض الأعداد ارتبطت، شعبيا، بطقوس ومعتقدات، مثل الرقم سبعة المتعلق بأسبوع الزواج وأسبوع الختان، والرقم أربعين المتعلق بالوفاة، والرقم ثلاثة عشر المرتبط، لدى بعض الشعوب بالتطير، وأيضا الرقم تسعة الذي يتجنب الكثيرون في بعض الشعوب العربية الإسلامية لفظه مستبدلين به لفظة "نسعدو".

وبالعودة إلى الفيثاغورية التي تعتبر الرقم ثلاثة دالا على الزواج، فإن لهذا الرقم** وضعا خاصا في الثقافات الشعبية، وفي الإنسانيات. فعلى الصعيد الأدبي تقسم المسرحيات الكلاسيكية، ولاحقا القصة والرواية، إلى بداية ووسط ونهاية. وفي الفلسفة ظل هذا الرقم فاعلا في الأبنية الفلسفية منذ أفلاطون وحتى ماركس. كما أنه حاضر أيضا في تقسيم فرويد لبنية النفس التي يكون في أعلاها "الأنا الأعلى"، موطن القيم والمثل العليا، و في أسفلها "الهو"، مستودع المحرمات (= التابوهات) والرغبات المحبطة والمكبوتات، ويتوسط هذين الطرفين "الأنا" الذي يلعب دور الوسيط والمُصالح بين تطرف مطالب الأنا الأعلى وجموح رغبات الهو. وواقع الحال، أن هذا التقسيم يعيد، بعبارات أخرى وفي استخدام مختلف، تقسيم أفلاطون لقوى النفس. حيث يضع في أعلى هذه البنية "القوة العاقلة" وموطنها الدماغ، ثم تليها "القوة الغضبية" ومحلها القلب، وتليها "القوة الشهوية" التي تمثل متطلبات الجسد.

التقسيم الثلاثي انتقل إلى عالم الأنظمة السياسية والقضائية في العصر الحديث. فبنية النظام السياسي الديموقراطي تنقسم إلى مؤسسة تشريعية، يمثلها مجلس النواب المنتخب من قبل الشعب، والمؤسسة التنفيذية التي تمثلها الحكومة، وتتوسط هاتين المؤسستين المؤسسة القضائية التي تقوم بدور الحكم في حالة نشوب خلاف بينهما.

وكذلك الأمر في النظام القضائي الفرنسي، حيث تتكون الهيئة القضائية من ثلاثة قضاة يصدرون أحكامهم بالأغلبية. لكن هذا الوضع لا يختلف، جوهريا، عن نظام القاضي الواحد. لأنه في حالة تعارض قاضيين من الهيئة تكون النتيجة صفرا وينفرد القاضي الثالث، الذي ينضم إلى أحد الطرفين، بتحديد مضمون الحكم كما لو كان القاضيان الآخران غير موجودين.

* د. جعفر آل ياسين. فلاسفة يونانيون من طاليس إلى سقراط. دار ومكتبة البصائر. بيروت لبنان. 2012
** انظر عمر أبو القاسم الككلي: الرقم 3 وصراع الثنائية. http://alwasat.ly/news/opinions/87622?author=1