Atwasat

حكايات تشبه السيرة الشخصية (2): عن الإنسانية

محمد عقيلة العمامي الإثنين 04 أكتوبر 2021, 11:08 صباحا
محمد عقيلة العمامي

انتبهت زوجتي لاهتمامي بالحمام، اقترحت أن نعد مأوى مناسباً، قد تتخذ منه حمامة عشاً لها. أجبتها كنت أتمنى ذلك ولكن سي عقيلة أخبرني أن «سبر أل دقيق» لا يربون الحمام، وفسرت لي أمي وأنا طفل أن تربية الحمام في البيت قد تكلف العائلة رقبة!. قالت لي: «هذه حقيقية معروفة وقد سمعتها من جدتك «زمزم» والحاج «محمد دقيق» الذي حملتُ اسمه..» ثم أشرقت ابتسامتها الدافئة، واستطردت: «وهذه حكمة ربي! قمت أنت بإحياء صنعته من دون أن تدري.

جدك محمد دقيق كان أفضل من يصنع وينقش «رقع الصبايا». الرقعة مثل الذي تسمونه ، هذه الأيام، بـ (البوت) وكانت العائلات تشترط رقعته ضمن ما يتعين على العريس توفيره لعروسه».

ولقد حاولت إقناع «سي عقيلة» بتربية الحمام، مؤكدا أن ما يقال عن تربيته هي اعتقادات خاطئة، ولكنه كالعادة، أقنعني برأيه:
- «شوف، أنت لما تربي حيوان يقعد صاحبك. صح؟ حسناً. معقولة واحد يأكل صاحبه؟ أو يترك أحدا يأكله؟» ويبدو أنه أحسن التشبيه لأنني اقتنعت بما قاله، ولم تعد لصرامته في الرفض حاجة، تغيرت نبرته، وعادت رقته: «اسمع تبي تأكل حمام، عليك وعلى مصر، يعرفوا كيف يربونه، وكيف يأكلونه أوووه «يا حميدا» الحمام المصري المحشي بالفريك، حاجة فوق ما تتصور.. تأكل ثلاث أو أربع وتقول زيدوني. سوف تمشي إلى مصر وتتذوقه. يا ما أكلنا منه زمان وإحنا صغار».

وأكتشف بعد حكايته عن الحمام بحوالي خمسة وعشرين سنة، أن كل ما رآه من العالم «قمينس» ومكة المكرمة! ومن بنغازي إلى مقبرة سيدي اعبيد، مرورا بثلاثة أيام قضاها بمستشفى «بروزدوشموا»! الله يرحمه ويحسن إليه.

كثيراً ما انتبهت إلى أن أسلوبه في تربيتنا، بل وفي علاقته برفاقنا تشبه تلك التربية التي تعلمتها من أستاذي محمد علي العريان، عندما كانت محاضراته متأسسة على أفكار الفيلسوف وليم جيمس المتناغمة مع (البراغماتية) التي يعتمد استخدامها على الشخص الذي يحملها، وأن «العالم عبارة عن فسيفُساء مكون من تجارب متنوعة تفهم بالتطبيق » وهذا ما وهبه له بفطرته، فهو رحمه الله (أمّى) تماماً، لا يقرأ ولا يكتب، تجربته الحياتية هي مدرسته، قال: «اترك الحمام يطير مثلما خلقه الله، وعندما تريد أكله اذهب إلى من خلقه الله وأمره بقتله وطهيه، ليست مهمتك لا تربيته ولا ذبحه..»

هكذا كانت تصلني معلوماته ببساطة، بلا تعنت ولا أوامر ولا عقاب... وها أنا مبتهج بالحمام، وسعيد أن يبتعد عن حبوب القمح التي نثرتها له، وهو يعرف أنني من فعل ذلك، ولكن ما إن أقوم بحركة مباغتة حتى تطير الحمامات في آن.

كثيراً ما فكرت، في تقليد الكتاب الكبار محاولاً كتابة سيرتي، التي لا أعتقد أن بعض جوانبها حسن، ولكنني ألغيت الفكرة أكثر من مرة، فما أريد كتابته، سبق وأن مررت عليه بسرد غير مباشر، في أغلب كتاباتي، ذلك لأنني طوال سيرتي التقيت بشخصيات رائعة، كثيراً ما حزنت أن سِيرها لم توثق، ولقد حاولت، قدر المستطاع، أن أنوه، أو أشير، أو أرمز إلى الكثير من هذه الشخصيات، في كتابي قهوة سي عقيلة الذي كتبته بأسلوب سردي مباشر بالتواريخ والأسماء، أما رواية «ليلة عرس الجمل»، فلقد وظفت فقرات من فصولها لأجزاء من سيرتي. ومثلها رواية «تمر سيوة ولبن قرقارش» وكذلك رواية «كوامي أيايا»، ورواية «وردة بنت شفيق» وأيضاً رواية «وشم على جدار العين» بل حتى مقدمة «الكراكوز» التاريخية.

أما مجموعات القصص فأغلبها تجارب شخصية، إما أنني بطلها أوشاهد على أحداثها. أيضاً الكثير من مقالاتي جزء من هذه السيرة التي أتمنى أن تكون في عيون الناس حسنة، وهو أمر قد يكون بعيد الاحتمال!

رفاقي وأصدقائي الحقيقيون، يعرفون عني الكثير، ولكن لطف الله بهم، وبي، كبير! فلا أحد منهم أصابته لوثة «الكتابة»، وإلا لكانوا حدثوكم عن خوارق يصعب كتابتها. ولذلك قررت أن أكتب ما أستطيع تذكره، أو بمعنى آخر العودة إلى كلماتي المتقاطعة طوال السنين الماضية، وأضيف إليها جانباَ لم أتناوله تماماً، وحان، الآن، وقت كتابته فقد يكون هو الذي يجمع هذه الكلمات ويجعل منها سيرة، وبمقدور القارئ الكريم أن يضيف إليها الصفة التي يرى أنها تناسب الحكاية كلها.

لعلكم انتبهتم إلى أنني أغفلت نصف الإنسانية الآخر! الذي لم يغب أبداً عن حياتي، فهذا النصف هو ما زرعه «سي عقيلة» في وجداني بحيث يكون أهم عناصره، وهذا النصف هن أمهات أبنائي، وهن أيضاً صديقاتي ورفيقاتي، وليس من مبرر ألاّ يكون لهن مكان في هذه السيرة! ولكن كيف؟ وأنا الذي قررت أكتبها كما هي! بجمالها وأيضاً بخيباتها! ومع ذلك فلا ضرر من المحاولة. ولكن بجرابي الكثير من الحكايات، التي لا يمكن بأي حال من الأحوال تناولها، وإبرازها، ونقد شخصياتها، فلم يعد النقد أمرا يمس هذه الكائنات التي تستحق النقد، فالمسكوت عنه قد يسئ لذريتهم، التي والحق يقال كانت مثالية في سلوكها وحياتها.

صحيح أن أباءهم لم يكونوا كذلك، وهم جزء من كلمات هذه الحكاية المتقاطعة. وأنا أعي جيدا مغبة سردها المباشر، ولكن سوف أحاول أن أصل الخبر، بتواصل الحلقات، بلا ضرر.