وثمة تمهيد لابد ان يشار إليه:

تلك الأعوام الخمسون قبلها تداعيات وقعت. وزلازل. كان لها تأثيرها في البعيد والقريب. ألقت بالظلال والألوان في كل الزوايا والأركان. الأفق تخضب بالنتائج والمحصلات النهائية. وظلت طي التاريخ. الحصاد الذي لابد منه. عام 1967. الانفجار العنيف. الشظايا. الجمر يتقد ويلتهب ويعلو على الرماد. وليبيا تغيب في العتمة وتلوح متعبة وتهتز. تترنح في أيام يونيو. اللهيب والشياط. حرائق في بنغازي وطرابلس في وضح النهار. المتاجر والبيوت والحانات والورش والمستودعات وبعض حوادث القتل. خرج اليهود بملء إرادتهم من ليبيا. وتركوا ما عندهم. لم ترحلهم الدولة أو تطردهم الحكومة. بقناعة من أنفسهم خرجوا ورحلوا نتيجة للخوف الذي أصابهم مما وقع.
الملك إدريس أدرك أن العصر لم يعد عصره. والوقت لم يعد وقته أو وقت جيله ومعاصريه. ظروف أخرى. أصوات ساخنة تعلو وتنتشر وتأثيرها في الداخل لاينكر. المنطقة بأسرها تتجه صوب دوامات الرياح والأمواج التي ستعتري المستقبل. من هنا بدأت. من الحرائق. من الخطاب القوي. من الصوت الساخن. من الهروب من الواقع وعدم الانتماء المطلوب للوطن. خبرة الأعوام الطويلة والتجارب الماضية أكدت للملك صدق مايجول في خاطره. لم يكن عزوفه عن السلطة أو التفكير في تركها طارئا.

لم يحدث ذلك العزوف في عام 1969 فقط. كان قديما ويتجدد مع المتغيرات التي تشهدها ليبيا والمنطقة. في السلوك والسياسة والاقتصاد والثقافة والمعرفة والأفكار. حقبة تطل على العالم جديدة لكنها ملتهبة وضاجة وساخنة.
التفكير في ذلك قديم لكنه تجدد. الملك يعرف المنطقة والعالم والقوى التي تربطه وتحكمه وتشده. المصالح والتشابكات. عايش أحداثها وظروفها العصيبة والمبهجة.. (وهي قليلة). منذ مطالع القرن العشرين. عرف كل الأطراف في الصراع: المحلية والإقليمية والدولية. تجارب كثيرة ماثلة. انهيار دول. اختراق حدود. سرقة ثروات. اقتسام غنائم. تعديل مذهل في الخرائط السياسية والمواقع. سقوط أنظمة. مؤامرات ولعب دولية. استخبارات وشركات لها ذيول ورؤوس مثل الأخطبوط تمتد عبر العالم الذي راح يتشكل بعد الحروب بطريقة تختلف عن سابقتها وإن كانت تسير على الخط نفسه. تجارب قريبة وبعيدة تظل ماثلة. مخاضات الأربعينيات في الوطن. الاستقلال الذي اجتاز خطوطا تشتعل في الأفق ثم تخبو. تستقر وتتحرك. مقتل الملك عبدالله عند أعتاب الأقصى. سقوط فاروق ورحيله. الضباط الشباب في مصر. اغتيال الشلحي وتداعياته واليد المجهولة التي ماتزال. التغيير العنيف في العراق. الأسرة المالكة تقتل بوحشية. تململ الجيوش واللعبة الدولية تحركها. البترول وآثاره. عوامل كثيرة وما القوم عنا ببعيد في كل الأحوال.

أصوات أخرى تهدر وتتزايد. هنا في 1967 كتب استقالته. لم تعلن للشعب. قدمها للبرلمان والحكومة. عرف أن القادم أسوأ في المنطقة. ليبيا لن تظل بمعزل عما يحدث. أنزل علمه الخاص من دار السلام التي تشرف على البحر واعتكف معتزلا في عوالي طبرق. لم يفلح في إقناع المسؤولين. وتعلل بظروفه الصحية الصعبة. والواقع أن الأمة كلها كانت في ظروف صحية خطيرة. إنها إشارات منه لبدايات العزوف والترك. وهو أيضا قبل ذلك وبعده مسؤول عن رعيته. بشر له وعليه. الظروف تبدلت والعالم والأجيال وليبيا أيضا. لكن المسؤولين لم يفهموا الرسالة.

.. والمزيد حتى منشور إبليس ولا إدريس.