Atwasat

الوعي في سوكنة

سالم الكبتي الأربعاء 06 فبراير 2019, 01:34 مساء
سالم الكبتي

تلك الواحات لم تكن تحيطها غرود الرمال وتحرقها الشمس فقط. كانت شاهدا على حضارة ومراكز للاستقرار والتلاقى والتجارة والعلوم وبعض الصناعات. جرمة ومرزق، غات أوجلة. ثم مثلث الجفرة. سوكنة وهون وودان وبعدهما زلة.

واحات وغيرها فى ليبيا مثلت حضارة الواحات وإنسانها منذ القدم . الفنون وطرق القوافل والحياة العامرة المزدهرة. ثمة علماء وفقهاء وشعراء ونساخ للمخطوطات برزوا هناك وحافظوا على الحرف والكلمة. كانت البدايات على الصخور ولوحات الجبال والمرتفعات، وفى الليل حول نار السمر تنطلق الحكايات والأساطير والرقص وتتسلل حكايات الحب والغرام.

لم تكن الواحات في الواقع تعيش في عزلة. كانت تحاول تحريك الساكن وتخلق وعيا ومعرفة وتتواصل فيما بينها. ثم يتجاوز هذا الأمر التلال ومرئيات النخيل ليمتد إلى ماحوله أو يسير نحو الشمال والساحل. القوافل تكفلت بكل شىء. نقلت التمور وريش النعام والقصائد والأغانى والألحان. حركة لم تتوقف. كانت تنقل الحياة والحضارة من الصحراء البعيدة فيما استقر الكثير من أبناء هذه الواحات فى المدن والضواحى وأسهموا بجهودهم وخبراتهم فى العطاء والتنمية. التقت حضارة الواحات مع حضارة المدن وتوحدت الجهود نحو الخير.

وحين كان الوطن يشهد مخاضا وصراعا قويا في أعوام الأربعينيات الماضية لم تتأخر الصحراء عن ذلك. حاولت بما تستطيع. وإذا كانت المدن تعلو فيها أصوات المظاهرات ورفض مشاريع الوصاية وتصدر فيها الصحف والنشرات وتعقد فيها اللقاءات والندوات وتتشكل خلالها الجمعيات والنوادي فقد اتجه أبناء الجنوب إلى العمل بما تيسر من إمكانيات ووسائل. لم يكن الصوت هناك خجولا. شارك الرجال في النضال. وحاولوا التنسيق مع بعض أطراف الوطن البعيد وأكدوا على أنهم قطعة من هذا الوطن. وماذا فعلوا أيضا؟ لم تكن ثمة مطابع. أصدروا النشرات والصحف المخطوطة باليد في الليالي الحالكات. كان الوطن يعيش في قلوبهم بوعي وعقل. في سبها صدرت نشرة الكفاح ثم نشرة الصاعقة. وفي هون صدرت نشرة صوت الجفرة.

ظل الناس يتداولون القراءة وفهم ماتعنيه السطور وماترنو إليه الكلمات المكتوبة بخط اليد رغم تربص عيون المخبرين وأذانهم في الإدارة الفرنسية التي كانت أشد وطاْة من واقع الإدارتين البريطانية في برقة وطرابلس. كانت هذه النشرات طريقا صوب الوعي بالوطن والتاريخ.

منذ ستين عاما من الآن. امتدادا وتواصلا مع هذا الإحساس بقيمة الرسالة والواجب نحو الوطن ولو بالمحاولات والجهود الفردية البسيطة ينهض أحد أبناء سوكنه وقد كان معلما يزرع الأمل في نفوس تلاميذه وينير دروبهم بالمعرفة والتعلم. ينهض بإصدار صحيفة حائطية يختار لها اسم الوعي. في إيحاء ذي دلالة مهمة. رسالة التعليم تكملها رسالة الكلمة والصحافة في سوكنه بالقدر المتاح. صدر العدد الأول يوم الجمعة 30 اكتوبر 1959. تولى الأستاذ محمد فاضل الزيان تلك المسؤولية الكبيرة. مسؤولية الوعي في المدرسة ونشره في أرجاء الواحة وماحولها. كان بمفرده يجهز الورقة الكبيرة ويخط العنوان وينظم الأعمدة ويكتب المقالات والأخبار ويوجه النقد الواعي ويختار الأشعار والأقوال وبعد أن يفرغ من ذلك يعلق صحيفته على أحد الجدران في السوق ويتابعها الناس بكل شغف.

في ترويسة العدد الأول وتحت العنوان أشار بأن الوعي تصدر كل نصف شهر وكتب افتتاحيتها قائلا: (إنني في هذه الصحيفة بالذات أحاول أن أكتشف الماضي حتى أصله بالحاضر ليكون أمل المستقبل. عدم إحساسنا للماضي في داخل نفوسنا يعني عدم فهمنا للحاضر). هل هذا استشراف منه لما هو قادم منذ ستين عاما؟!

وماذا بعد ذلك. ظلت الصحيفة تصدر حتى 5 مايو 1960. كان مجموعها حوالى ستة أعداد أو أزيد بقليل. ولعل هذه التجربة الصحفية التي شهدتها سوكنه رغم بساطتها كانت حجر البداية لاستمرار الأستاذ زيان في عمله الوطني والصحفي فقد نشر مقالاته ودراساته المهمة فيما بعد في صحف طرابلس الغرب والميدان التي أسسها رفيق نضاله وصديقه فاضل المسعودي وفي صحيفة الحقيقة في بنغازي منذ أعدادها الأولى وتواصل هذا النشاط الكبير بلا توقف في مراحل لاحقة خارج الوطن.

لم ينس صاحب الوعي في نهر صحيفته مايتعلق بفرنسا وتجربتها الذرية في تلك الأيام ومقالات عن المساواة والعربي والحرية والضرائب وغيرها من إشارات وتنبيهات لمن يهمه أمر المواطن في سوكنه.

وحدث اْن كانت البلاد تستعد لإجراء الانتخابات البرلمانية في إحدى الدورات الجديدة. نشرنصوصا من مواد الدستور وأخرى من قانون الانتخابات ونبه إلى قيمة الاختيار السليم للنائب الوطني الذي ينهض بمسؤولية الدفاع عن حقوق المواطن وحرمة الوطن.

كتب فى العدد الثالث الصادر في الحادي عشر من ديسمبر 1959: (ونحن هذه الأيام بين أخذ ورد في كيفية انتخاب من يمثلنا في هذه الرقابة ولكن اْيها الأخوة شعبنا مريض بداء الانتخابات ويحسبها مجرد تجارة يدفع فيها رأس مال قدره ألف جنيه على أن يربح ثلاثة آلاف أخرى. ياللعار وياللخزي. إن شعبنا مريض ولكن بماذا مريض؟ مريض بالأمية السياسية. وعلاجها هو التربية السياسية وهي ليست مايقرأ أو يكتب في الكتب أو يتلى من فوق المنابر وإنما هو تدريبات حية لإمكانياتنا السياسية جميعا ولا شيء يسلك بنا هذا السبيل المجدي سوى الحياة الدستورية القويمة).

ثم أشار بكلمات مباشرة وقوية: (إننا في حاجة إلى برلمان يقف في وجه كل مستبد ليقول له أقصد فى مشيك أيها المتلاف. لانريد برلمانا إذا قيل له امش مشى وإذا قيل له كن فيكون. نريد برلمانا تكون السلطة في يده. ولكن على من يقع في عدم وجود برلمان بالمعنى الصحيح. هل يقع على الحكومة؟ (لا). اللوم يقع على الشعب الذي لايعرف كيف يختار ممثله)!

هل كان ذلك استشرافا للمستقبل ووصلا للماضي مع الحاضر؟. وعلى الدوام يظل الوعي عين الأمة على واقعها. يظل قيمة يعول عليها في كل الظروف والأحوال. والوعي في سوكنه اْيضا يظل عزفا منفردا ما لم ينضبط الإيقاع في الوطن كله ويصبح حلما رائعا بتقادم الأعوام نحو الأفضل والجميل.