Atwasat

إرهاب الإسلام السياسي

سالم العوكلي الأحد 28 أكتوبر 2018, 11:29 صباحا
سالم العوكلي

ثمة مغالطة وقعت فيها الكثير من الكتابات والتحليلات، ووقعتُ فيها في بعض مقالاتي السابقة، تتعلق بالتفريق بين الجماعات الإرهابية وبين الإسلام السياسي؛ الذي يوصف كونيا، والآن، بأنه معتدل، وهي مغالطة وجدتْ لها ترويجا كبيرا حتى على مستوى التصورات الدولية لمستقبل المنطقة، وعلى مستوى أطروحات بعض المثقفين الذين رأوا أن طبيعة الديمقراطية تقبل كل هذه التنوعات داخل فضائها.

من هذا المنطلق، خلقت بعض الحركات الإسلامية التي تتمتع بماض إرهابي أذرعاً سياسية تابعة لها كي تدخل حيز الصراع السياسي وفق أداوته المستخدمة، وكونت أحزابا سياسية دون أن تتخلى عن عقائدها التكفيرية الإقصائية، ودون أن تفرط في ذراعها المسلح وعملها السري الكفيلين بإنجاز مالا يمكن إنجازه سياسيا.

تقع كل الجماعات الإرهابية داخل دائرة ما يسمى "الإسلام السياسي"، أو بصورة أشمل، داخل فكرة تسييس الدين. فحين يؤسس ذراع منشق عن جماعة الأخوان المسلمين تنظيم القاعدة المسلح، وتكون مهمته الأولى المشاركة في صراع القطبين وانحيازه للمعسكر الغربي في محاربة الشيوعية، فقد دخل في صميم السياسة، وحين يرسل تنظيم القاعدة، بعد نهاية الحكم الشيوعي لأفغانستان، جماعاته المسلحة للعمل على إسقاط النظم الكافرة (الطواغيت) في المنطقة، داعيا لدولة الخلافة، فهذا من صميم الإسلام السياسي.

وحين يتبني فصيل منشق عن تنظيم القاعدة مصطلح (الدولة) في تسميته لمشروعه، الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"، ويستولي على أراض ويُعيّن ولاةً لها، ويبني نظاما اقتصاديا لتمويله، ويرسي مبدأ المبايعة لمؤسس هذا النظام في أية بقعة تتاح من العالم، فإن هذا لب الإسلام السياسي، الذي نظر له حديثا مؤسس حركة الأخوان المسلمين، حسن البنا، عبر بدايتها كجماعة دعوية، انتقالا إلى طموحها السياسي سعيا للوصول إلى السلطة كخطوة من أجل توحيد التنظيم العالمي لتحقيق دولة الخلافة، كمشروع انتكاسي نظُّر له بقوة، سيد قطب، ضد أطروحات علم السياسة الحديث وابتكاراته الحقوقية، فأصبحت أطروحة الحكم الرشيد تعويذة هذه التيارات ضد أي تفكير في إصلاحات ديمقراطية، متناغمة في ذلك مع نظم الاستبداد السياسية التي تعيش فوبيا الديمقراطية، مستعينة بمفردة طقوسية "الشورى"في مواجهة إصطلاح سياسي أفرزه الحراك التاريخي "الديمقراطية".

في مقالته "بين الشورى والديمقراطية" المنشورة بموقع بوابة الوسط 21 أكتوبر 2018 ، يقول الكاتب عمر الككلي: "كثيرا ما يستخدم مصطلح "الحكم الرشيد" أو "السلطة الرشيدة" إشارة إلى نظام الحكم العادل الخالي من الظلم. هذا المصطلح يستخدمه الإسلاميون مشيرين به، صراحة أو ضمنا، إلى الحكم الإسلامي المثالي، ألا وهو الخلافة الإسلامية. بيد أن هذا المصطلح بالغ الغموض. لأن الخلفاء في التاريخ الإسلامي لم يكن معظمهم راشدين، ومن ناحية أخرى: ما هي مؤسسات الحكم الرشيد التي تضمن رشده ورشاده؟.".

الواقع، لم تنتج تلك التجربة مؤسساتها، أو تشريعاتها النافذة، التي تضمن رشاد الحكم إلا بالمراهنة على تربية وأخلاق الحاكم الشخصية التي ظلت حتى طيلة حكم الخلفاء محل جدل كما يفصل الككلي في مقالته المهمة، مشيرا من زاوية أخرى إلى تعزيز فكرة الخلافة التي فرضها صراع الإمبراطوريات في ذلك العصر على مناطق النفوذ، عبر تكريس فكرة الشورى كبديل لمؤسسات الديمقراطية الحديثة المؤثمة بكونها نتاجا غربيا: "يتم التحجج بمبدأ "الشورى"، وهو مبدأ بنفس غموض أخيه مصطلح الحكم الرشيد. ذلك أن الشورى لم تمارس في التاريخ الإسلامي من خلال مؤسسة، وإنما مورست على نحو كيفي وفي نطاق بالغ المحدودية". وهذا الغموض الذي يشير إليه الككلي ناتج عن استلهام مفردات شعائرية، أنتجها واقع متسق معها، في مقابل اصطلاحات تاريخية أنتجتها التجربة الإنسانية في الترقي.

إن العمل على لَيّ رقبة التاريخ إلى الخلف، ومحاولات تدجين الابتكارات الإنسانية الحديثة لمقولات التراث ــ التي لا ترتكز على أية قاعدة نظرية في الفكر أو أداة مؤسسية ــ يعود حسب ما اعتقد إلى محاولة مزاحمة الأيديولوجيات الحديثة من مروجي فكرة الإسلام السياسي الذين عملوا بتعسف لغوي وفكري على إدراج الدين في قلب الصراع الأيديولوجي كخيار صالح لحل مشاكل الإنسان فوق الأرض، ما أدى في النهاية لتفريغ الدين من جوهره الروحي دون قدرته البنيوية على حل مشاكل العصر المعقدة.

وكما يقول عياض ابن عاشور في كتابه (الضمير والتشريع): "ما يروج اليوم من أقوال متعلقة بآيات الشورى، مثل التي رأت فيها دعائم النظام الديمقراطي، وبذور النظام الاشتراكي وشيئاً من حقوق الإنسان، فهي تركيب معانينا الظرفية على المعاني الأزلية للكتاب، وآيات الشورى لا تمت إليها بصلة ولا إلى مفهوم العدل الاستوائي".

في كتابه "أوهام الهويـة"، ترجمة محمد علي مقلد، يقول المفكر الإيراني داريوش شايغان: "إذا كانت الديمقراطية تبدو، مع الموجة الثالثة من الحداثة، وبفعل تشظي المجتمع، بمثابة شرط مسبق لكل حرية؛ أي بعبارة أخرى، إذا كان هذا التحول التكنولوجي، بطبيعته، يتطلب دمقرطة العادات، فإن بعض البلدان الإسلامية تبقى ميالة إلى ترويض الإنسان. ويُرفض حق الاختلاف لحساب نموذج ثقافي يتطابق ، في أحسن الأحوال، مع الصورة التي يرسمها فقهاء الشريعة عن الإنسان المسلم. فالثورات الثقافية في البلدان الإسلامية لا تعمل على أسلمة السكان، وليس هذا فحسب، بل هي، على العكس، وذلك بسبب سيكولوجية الجماعات التي تحركها، تصنع مجتمع الجماعات والكتل. وفوق ذلك ، فإن الدين، وهو يفاجئ العالم الذي يتخطاه تاريخيا، يتزاوج مع الأشكال الأكثر راديكالية من الأيديولوجيات التوتاليتارية، ويتحول رغم أنفه إلى معادل ديني لنوع من الفاشية".

انطلاقا من هذا التصور الحصيف، لن نستغرب تأسيس جماعة الأخوان المسلمين، في الربع الأول من القرن الماضي، بموازاة مع بزوغ التيارات النازية والفاشية في الوقت نفسه، ولتلقى هذه الجماعة فيما بعد، وأخواتها من حركات التسييس الديني الأخرى كالسلفية وتفرعاتها، دعما من المعسكر الغربي الذي سعى لتحويل الإسلام لأيديولوجيا معادية في المنطقة للشيوعية، أيديولوجيا المعسكر الشرقي. كما يأتي دعم الغرب للإسلام السياسي ــ الليبرالي حسب مفهوم الغرب له ــ بعد الربيع العربي، كخيار مناسب ضد عودة انتشاء التيارات اليسارية في المنطقة . ولا يفوت الكاتب عمر الككلي الإشارة إلى هذا المنحى،عبر تضمينه لاقتباس من الدكتور عبد الإله بلقزير في كتابه (الفتنة والإسلام): "أن فكرة الشورى في الفكر الإسلامي المعاصر، ليست من نسل الفقه السياسي الإسلامي التقليدي (فقه السياسة الشرعية)، [...] وإنما هي من ثمار الفكر السياسي الليبرالي الحديث وآثاره في الوعي العربي والإسلامي منذ القرن التاسع عشر".

ولأن بنية الدين ــ نظريا ــ كمنظومة طقسية نقلية تتناقض مع بنية الأيديولوجيا كمنظومة عقلية جدلية ــ وقعت هذه الخطابات العاطفية في مأزق توريط الدين في الصراعات الأيديولوجية، وهو توريط لا يُفقد الدين روحانيته فقط ـ كما أشرنا ــ ولكن قداسته أيضا.
من المغالط ـ حسب ما أتصور ـ- أن نفرق بين الإسلام السياسي والجماعات الإرهابية كما يشيع في الكثير من الخطابات التي برزت أخيرا، فالفكرة واحدة وإن اختلفت الوسائل، وهي محاولة تركيب معانينا الظرفية على المعاني الأزلية للكتاب، ما يمثل أقصر الطرق للوجود في قلب الفاشية.

ملاحظة: إذا ما اعتبرنا حركة الحشاشين أول تنظيم إرهابي في اٌلإسلام مارس الاغتيال السياسي المباشر وفق تراتبية وتخطيط مسبق، فإن حركة "الأخوان المسلمون" هي أول تنظيم إسلامي، سياسي، تراتبي، براغماتي، مارس الاغتيال السياسي في العصر الحديث، وتفرعت عنه معظم الحركات المسلحة الإرهابية، من جماعة التكفير والهجرة إلى داعش. لهذا السبب كان تركيزي على هذه الجماعة.