Atwasat

أسئلة ممتنعة اجاباتها

عبد الكافي المغربي الأربعاء 19 سبتمبر 2018, 10:08 صباحا
عبد الكافي المغربي

لا تلبث الحقبات التي كان الدين والمسلك الاجتماعي ونظم الاشتراع خلالها مطبوعة بطابع واحد يمنعها الجمود من أن تتحول عن سيرتها الأولى، حتى تنقضي، وحتى تخوض التحولات الجذرية في العناصر التي كانت مرتفعة البناء، ويختتم دهر السكون دوره. وليس كمثل الأحقاب التي تتلو نزوعًا إلى صياغة الأسئلة، وأعز إرادة على تغيير الجغرافيا والثقافة والكيان السياسي جميعًا.

وليس يراودنا اليومَ شك في أن البلاد العربية تقطع ما يفصل بين حقبتين، حقبة الماضي التي ما زالت تمارس تأثيرها السلبي في حياة العرب الحاضرة وتجذبهم إليها، وحقبة التغيير التي لم تتم أممنا استعدادها لعبورها. ونحن نؤكد هذا التأكيد إذ نشهد نزاعًا يكاد يكون حاسما بين الدين من جهة، والسلطة الرسمية من الجهة الثانية، بعد فترة اختمار كان الإسلام السياسي إبانها يقدم تصوره للنهضة الإسلامية، تجاوزا للنهضة العربية التي نافحت عنها، في أكثر الأوقات، النسخة الملطفة من الماركسية، التي لم تؤتَ إلا نصيبا يسيرا من إدراك تيبولوجيا وتقنية المجتمع الماركسي، وسنصفها بالشيوعية العربية.

لماذا كان هذا الفشل التام للتغيير العربي؟ والسؤال يولد سلسلة لا متناهية من الأسئلة الفرعية

وكبير تلك الأسئلة، لماذا كان هذا الفشل التام للتغيير العربي؟ والسؤال يولد سلسلة لا متناهية من الأسئلة الفرعية، التي إن لم تتعذر الإجابة عنها تناقضت أجوبتها، ويظل السؤال الأهم متعاليا في غموضه، والتوفر على إجابة واحدة قاطعة عنه لا يزال بعيد المنال.
وإذا أرجعنا الفشل لبقاء الدين على مذهب العصور الوسطى، وأن الربيع العربي كان محكومًا عليه أن يسفع لفقر إلى الإصلاح الديني، استنتجنا أن الانقلاب على المذهب القديم هو مفتاح الخروج من الأزمة العربية. لكن ألم تكن الوهابية إصلاحًا وثورة على الخرافات التي عكرت نقاء النسخة الأصلية، على الأقل في منظور الجماعة السلفية؟ فهل اعتصم الإصلاح الوهابي عن سفك الدماء وإحالة الجزيرة إلى مسرح لأشد المجازر فظاعة وأكثر المشاهد رعبًا في تاريخ الحجاز؟.

وإذا كان الإصلاح البروتستانتي، كما يوضح المؤرخون الذين يظهرون الفناء في الدراسة ويدعون الالتزام بالبحث الجدي، ضمن الأسباب التي وطأت للتغيير السياسي في إنجلترا أولًا، وسائر أوروبا المتحضرة آخرًا، فكيف نفسر تخويل اللوثرية والطوائف الأقرب إليها لزعماء الثورة الهولندية وسادات ألمانيا أن ينتهكوا الكاثوليك، ردًا على ذبح إخوانهم الهيجونوت وإجلائهم عن فرنسا، على أشد ما تكون الصورة من وحشية نراها ماثلة في أبرع صياغة وأوسع توثيق في موسوعة التاريخ الإجرامي للمسيحية التي وضعها الملحد الألماني كارل. هـ. ديشنر.

وأيضًا أليس الإسلام السياسي إصلاحًا وتطلعًا إلى إحياء المجتمع المستقيم واستجلابا لماضي النبوة والخلافة الراشدة؟ فهل إذا اجتمع له الأنصار ومُكِّن من السلطة في إيران والسودان وليبيا أتم عهده وحقق وعده؟.

وإذا صرفنا النظر عن هذا كله ورأينا إلى ما كان من إصلاح الإمام محمد عبده وكلمته الطيبة في الحرية العقلية، وتساءلنا كم اجتمع له من نفر، وهل كان إصلاح محمد عبده هو الذي تصدى للمؤسسة الأزهرية أم الحركة العلمانية الأشد على الدين؟.

وحتى إذا سلمنا بمساهمة الإصلاح الديني في التغيير الناجز رغم الغموض الذي يلف ما نحاول استكناهه من أمره، والتناقض الذي يرافق أجزاء البحث كلها إذا اتكأت عليه سببا للتقدم ونتيجة لانتفاء القديم، حق لنا أن نسأل هل ينقض الإصلاح المأمول كل ما سبقه، وهل ينقرض أتباع القديم انقراضًا تامًا يضمن عدم نشوب النزاع بين الفئتين، نزاعٌ لا يرجى من ورائه فوزٌ لواحدة على الأخرى، الذي سيبسط السبيل أمام طلائع العلمانية للوثوب على أنصار التدين والتغلب عليهم، وإنفاذ إرادتها على الأمة، وأنت تعلم من شأن أوروبا شواهد على ما نقول.

إذا خرجنا من تقصينا بتشكك حول الإصلاح نظرنا إلى العلمانية نفسها، إذ تبدو الحيلة الوحيدة للانتهاء إلى مجتمع متسامح لا تفرقه المذهبية

وإذا خرجنا من تقصينا بتشكك حول الإصلاح نظرنا إلى العلمانية نفسها، إذ تبدو الحيلة الوحيدة للانتهاء إلى مجتمع متسامح لا تفرقه المذهبية، ولا تسطو عليه النظرة المحدودة ضمن الأفق الديني، وفقًا للعلمانية الرسمية ومثالُها فرنسا. لقد كتب البعض في عصر التنوير موسوعات وكتبًا، وصادف أن اختتم هذا العصر بثورة خطيرة، وبحروب واسعة النطاق كان تاريخ أوروبا يغْمُض بدونها فيه المغزى. لكن أيضًا ألم تُذبح الآلاف ويُمْلق المثرون بعد إعلان حقوق الإنسان واتخاذ الحرية والعدل والمساواة مبادئ للتغيير؟.

وهل حال التنوير بين شخصية غير معقدة، ذات كبر وصلف، هي شخصية الطاغية نابليون، من أن تنتهج سياسة في حكم فرنسا هي أضل سبيلًا من سياسة من ثارت بهم القوم؟. وماذا نريد بالاستنارة؟. إن هذا التعبير عن اتساع المدارك واسع بحد ذاته، ويحمل أكثر من معنى. والأقرب إلى فهمنا أن أجلس خلف مكتبي، أضع الحلول البسيطة المعربة عن غرور النفس التي تستنيم إلى استجلاء سطحي للموقف، وأستنتج أنه ما دامت شعوبنا لا تقرأ، فإنها ليست تنقلب على الارتباك والخيبة التي تسود القارة العربية في هذه الأيام. وإن كان يبدو لي ذلك حقا في أول عهدي بتخصيب العقل، فإني الآونة أمْيَل إلى إبطاله. هل نتصور أن الإعلام والإنترنت إلى جانب معارك العيش الشظِف تنزل للمعرفة عن سلطانها العجيب، ويستنير الناس أجمعهم بنار العقل المقدسة فيما يتناولون من كتب ويشكلون مداركهم على أبعد درجات الكمال؟. وذلك بعيد ما لم تأتلف القلة الخلاقة من المجتمع، وهم المثقفون، مع عناصر التفوق المعلوماتي فيه، الإعلام والإنترنت.

ولم ينتقص من العلوم الإنسانية مكانتها سوى ذلك التناقض وهذا الاضطراب اللذيْن يسمان فروعها ويحكمان على نظرياتها. ولقد كان الناقد والأديب والمؤرخ والعالم التجريدي والمثقف التقليدي ومن هم في عدادهم من الأكاديميين يمضون الفكر للخروج من ارتباك علومهم، علوم الإنسان، غير أن طبيعة الإنسان الذي تحققه وتَسبُرُه هذه العلوم هي الديناميّة والتغير، ولذلك لم تَنْقه الأبحاث الإنسانية من علة "لعل" ومن التناقض الحاكم على محاولات المعرفة الخالصة المتسلطة على العقل. وما دامت الحال كذلك، ولا تزال أساليب العلم الدقيقة من تجربة ومحاكمة قاصرة عن ترتيب وتنسيق علوم الإنسان على وجه الضبط، والنزاع بين النظر والعمل قائم لا يهدأ، فليست ثمة قاعدة عامة، وليست تمْثُل لنا سُنّة أكيدة، بل هي فوضى اللاشعور الجائشة ودفق الطموح الإنساني وقوانين التاريخ المجهولة منا تقود الإنسانية إلى مصائرها، ونحن لا نمتلك ناصية الحقيقة للوعي بهذه المصائر ولِننْفض منا التزامنا بالنظر وتجرُدِّنا له.ِ