Atwasat

«نهارات لندنية».. عندما يتحول الهروب إلى طقس حياتي

طرابلس - بوابة الوسط الجمعة 08 سبتمبر 2023, 03:03 مساء
WTV_Frequency

كيف يتحول الهروب إلى طقس حياتي؟ أن تمارس فعل الحياة بنزقها وجنونها وتسبح مسترخياً في نهر حريات صاخب، يخضبه قلق أوردة الاستذكار التي تجبرك على التواصل مع عالم غادرته منذ زمن، خدر برودة الشمال المحلق في ضباب لندن وارتداداته الدائمة لسحر طرابلسي معلق على أسوار السرايا.

هكذا تبدو رحلة بطل رواية «نهارات لندنية» للكاتب جمعة بوكليب الصادرة عن دار الفرجاني، في طابع يتحرر من طقوس السرد الروائي لصالح صيغة سيرية تمتاح من سفر الأمكنة في مدينة الضباب، وظل في المقابل صوت الراوي متنقلاً بين الصيغتين «الرواية والسيرة» في ديمومة النثر اليومي بغية إيجاد هوية تقارب هذا الدفق، وتضعه في مربع التسمية أو السمة الصحيحة إلا أن النسيج المعبد لهذا المسار قد يحمل في داخله بذرة النأي عن التوصيف، ولنا أن نسأل هل تكفي كتابة رواية حتى نصل إلى قناعة بطبيعة المحتوى؟ أو هي مدارات للبوح لإخراجه من دائرة الواقع لتصبح التسمية تعويذة لحماية المجال الذاتي؟

- للاطلاع على العدد 407 من جريدة «الوسط».. اضغط هنا

في النهاية نصل إلى سياق حمال أوجه يتغدى على درجات الحدث النهاري وهو يرتقي من العادي إلى المؤلم والمختلف وانتهاء بـ«الملخبط» ويتجلى شاخصاً كشاهد مستقل يراقب فعل الراوي وأبطاله الذين تقذفهم ظروف الأحداث من نوافذ القدر، لكن النهار ظل تابعاً لمزاج الراوي محملاً بأسماله وأخطائه، حيث يتحول إلى إحدى بوابات الفرار من المسؤولية ويتسنى للأخير ركل الوقت واحتضان المزيد من المغامرات منسلخاً من عقدة الذنب.

إلا أنه في وعي الراوي مجرد شاهد على تفاصيل الفعل اليومي والذي لا يروق للراوي البطل، فهو غريمه ونديمه السرمدي وصندوق أسراره الأثير، هنا تصبح الحيلة لازمة بعد أن «وقفت الزنقة للهارب» ص9، ليس للكتابة السردية فقط بل لسحب كمية العزلة المتجمعة من صنبور التقطير على رأي العماري، وصياغتها بمبرر مفضوح، وعلى المتلقي إدراك أن ما يقرأه «لا يتعدى حدود الخيال، وأنني كمؤلف بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب» ص11، وعلى القارئ خلق صيغة تواطئية تعطي للسرد شرعية التواصل، انتصارا للفنية وتماهيا مع التعويذة لا للخيال أو الحقيقة، ولتصبح «النهارات» نماذج فنية فحسب مقتطعة من حياة ملتهبة بصور متعددة.

ليلة بلا قمر
في كتابه «المكان الخطأ» ينقلنا الناقد إدوارد سعيد إلى مفازات اغترابية حافلة بالألم والصراع والوحدة، حيث ظلت كل الأماكن، القاهرة وبيروت ونيويورك، صدى للمكان الأم «القدس»، فيما نلحظ صدى المنابت لدى راوي النهارات ملحوقاً بالمقارنات بين طرابلس ولندن أو بين معارفه من شخوص لارتباطهم بذاكرة مؤلمة أو توقاً إلى عالم بديل أو نزوعاً إلى مقاربة شروط نفسية مضمرة، تلك المقارنات تسوق النهاية إلى مصب رئيسي «طرابلس» عبر نفس اغترابي ينهض على وعي داخلي بزيف العالم البديل رغم الوجود في الفضاء الحلم، الذي غادر لأجله طرابلس، والمقارنات تتسع دائرتها من الجغرافيا إلى الشخوص، فتيمة الاغتراب تجمعه مع صديقه أحمد، إلا أن الأخير رفض العودة، كذلك صديقته الجزائرية حسيبة حيث أصبحت لندن عالمها وحياتها، ويرى الراوي قدسية ارتداداته الأولى واضعا تباينات المواقف على مقصلة الهجرة «تذكرت أنني أحمد ورضوان وغيرنا من مدن العالم الآخر لسنا سوى ضحايا لزمن قاس انتزعنا من جذورنا في ليلة بلا قمر، فيما تسأل حسيبة: الحنين إلى فردوس مفقود أم جنة موعودة؟

- للاطلاع على العدد 407 من جريدة «الوسط».. اضغط هنا

ربما نعثر هنا على ما يمكن تسميته تشريح الغربة بوضعها بين ضفتي الرفض والقبول أو رغم واحدية المنشأ فليلة بلا قمر كانت كود الشراكة بين الشخوص وفتيل الوجهة للفردوس على رأي حسيبة إلا أن نقاط المرجعية قد أخذت مسافات أخرى مغايرة تبعا لطقوس الحالة ومتغيرات الطبيعة النفسية التي أحدثت شرخاً في قدسية المكان ولم يعد ماثلا كجنة موعودة، وكان للسرد أن يخضع لهذا التذبذب بين صوت الراوي الداخلي الساكن في ذاكرة «وسعاية بوراس» وأصوات أخرى، ووقعت أفكار البطل الراوي وآرائه بين مطرقة قدسية المنابت وسندان تمرد ذوات أخرى عليها أضعف قوة استحكامها، وتجلى ذلك في صمته أمام مرافعة المرأة التي فرت بأولادها رافضة العودة إلى زوجها في طرابلس، فالراوي معلق بين هاجس الرجوع ورغبة البقاء. تماماً كتشظيات بطل «شيطانات البنت الجنية» المذكورة في «النهارات» كتعزية للراوي وتميمة التوأمة مع ذاكرة بارغاس المنشطرة بين الكيان الباريسي ومسقطه البيروي.

خيارات معلقة
تراود البطل فكرة كتابة رواية عن قتل الأزواج لزوجاتهم والعكس، إلا أن أرضية الشرارة السردية ظلت طريدة استعصى تحديد فضاءاتها بين طرابلس أو لندن، كما أن تصوراته لم ترتفع فيها أبعاد الحدث إلى مستوى يمكننا من ملامسة ملامح القضية ومعرفة المذنب والبريء، عدا أن الأنثى عنصر الرواية الرئيس كان حاضراً بقوة في حياة شخوصه حاملة في كينوتها مركز الثبات والخلخلة، وظل خيطها الرفيع مستفزا لسقف مفتوح من التعاملات إلا أن وصفة الراوي في الاقتراب أو البعد عنه تترجمها «علاقة الذئب بالمنداف»، فبانوراما حواء قدمت له أحمد الطليق، ورضوان الطريد، وفاطمة التي لا تشعر بالسعادة إلا في لشبونة، وسالي التي ارتبطت بذكريات أليمة مع لندن، حتى حسيبة تأرجحت في بندوله العاطفي بين حبيبة وصديقة وأم. إضافة إلى تجربته الأليمة مع الزواج، جعلت فوبيا المنداف إحدى ركائز القلق الرئيس في تحديد علاقته مع المكان ومسار إبحاره نحو بطل نموذجه السردي.

ترفع الفوبيا السالفة سجنه الفيزيائي في طرابلس كشبح يطل في خلفية الحركة النفسية بلندن حيث التجوال في الأزقة والمقاهي والشوارع هو جزء من بصيرته المتفلتة من الثبات بحثاً عن قدسية الحالة الهيبية التي تذوقها مراراً في «همرسميث» و«ويمبلدون» وشارع «بتني بريدج» إلى آخر شواغله مع الجسد اللندني المسترخي على ضفاف «التايمز)»، وهي حركة في مرموزها الأعلى تواجه لعنة السقوط في وحل الثنائية السجنية «المكان والجسد»، تتقدمها الأسئلة وتصرعها الإجابات المعلقة.

الكاتب الروائي جمعة بوكليب. (أرشيفية: الإنترنت)
الكاتب الروائي جمعة بوكليب. (أرشيفية: الإنترنت)
رواية «نهارات لندنية». (الإنترنت)
رواية «نهارات لندنية». (الإنترنت)

المزيد من بوابة الوسط

تعليقات

عناوين ذات صلة
بحضور فناني ليبيا.. توقيع كتاب «كواليس الكوافي للمسرح العام ببنغازي»
بحضور فناني ليبيا.. توقيع كتاب «كواليس الكوافي للمسرح العام ...
أوكرانيا تسعى لأن تكون «مرئية» خلال يوروفيجن
أوكرانيا تسعى لأن تكون «مرئية» خلال يوروفيجن
بينهم ليبيون.. أكثر من 1000 مبدع ومثقف من 141 دولة يدعون إلى وقف فوري للحرب في غزة
بينهم ليبيون.. أكثر من 1000 مبدع ومثقف من 141 دولة يدعون إلى وقف ...
يختتم فعالياته اليوم .. مقتنيات تاريخية نادرة في معرض أبوظبي الدولي للكتاب
يختتم فعالياته اليوم .. مقتنيات تاريخية نادرة في معرض أبوظبي ...
مسؤول ليبي أمام منتدى باكو: ليس للبشرية سوى الثقافة كجسر حضاري لتحقيق السلام
مسؤول ليبي أمام منتدى باكو: ليس للبشرية سوى الثقافة كجسر حضاري ...
المزيد
الاكثر تفضيلا في هذا القسم