Atwasat

17- من أدبيات رسائل الفاخري

القاهرة - بوابة الوسط: محمد عقيلة العمامي الثلاثاء 12 أكتوبر 2021, 02:23 مساء
WTV_Frequency

 17- من أدبيات رسائل الفاخري

لعلها من أكثر رسائل الفاخري بلاغة، ولعلها الرسالة التي نبهتنا نحن رفاقه، إلى حجم معاناته وعذاباته. فاجتماعاتنا وسهراتنا الأدبية والاجتماعية، كانت مهرجانات آدب وفن وموسيقى، وبهجة باتصال النهار بالليل. نحن نعى تماماً مدى ارتباطه بأطفاله كافة، ومدى ارتباطه بابنه (ميدو) المصاب بداء «التوحد». وكنا نرى كيف يهون على طفله وعلينا صعوبة المواقف من خلال قفشة، أو تعليق، في حين أنه كان يتعذب كثيرًا ولم يظهر حجم هذا العذاب. كما قلت أعطاني الرسالة لأسلمها إلى أخيه الدكتور مصطفى، وقال لي: «تستطيع قراءتها ولكن ليس في حضوري، يعني من بعد تصل المطار. وفي المطار قرأتها، ومن المطار أبلغته أنني سأنشرها، فلقد اتصلت بالأستاذ حسن الهوني وأخبرته عنها وأحلتها إليه فنشرت قبل أن يتسلمها الدكتور مصطفى. إليكم نص الرسالة:

أخي الحبيب مصطفى

موحشة هي الكتابة..

فأنت ما أن تفرغ ما في صدرك للآخرين عن طريق الكلمات حتى تشعر بالخُواء، والوحدة، والوحشة، إذ أنك أعطيت كل ما لديك، ولم يعد في جوف قلبك سوى الريح التي تذرع أبعاد الصحراء. إنها الوحشة!

مُوحشة هي الكتابة

إنها بقدر ما تربطك بالآخرين، بقدر ما تشعرك بمدى وحدتك. أنت تنظر إلى الأمام لكي تعرف الماضي، وأنت تتطلع إلى الخلف حتى تستشرف المستقبل! لكنك تقف في نقطة (عبر حدث) لا علاقة لها بالزمان والمكان.. إنها نقطة تنبثق منك، لكنها لا تعود إليك. لذا تشعر أن جزءًا من قلبك قد مات، أو ضاع على أقل تقدير! عندئذ تصبح الكتابة أمرًا صعبًا بكل مقاييس أولئك الناس الذين يتوخون كل الأمانة والصدق.

إنها ليست ترفًا، أو موهبة – كما يقول بعض النقاد البلهاء – بل هذا عذاب متصل في صحْوك ومنامك، وفي أحلامك اليقظة والخدرة على السواء!

موحشة هي الكتابة، خاصة عندما تكتب إلى من تحب. إنك تحاول بإصرار أن تزرع قلبك بكل ما فيه على الورق، لكن الورق لا يُنْبتُ دفئًا إلاّ حين يحترق كذلك القلب!! لذا أنا أحرق ُ أوراقي من أجلك لكي أقول لك أنك ممتلئ نبلا، وكرما، ومروءة، ومودّة.

لقد كسرتني الأيام.

لكم هو موحشُ ذلك الشعور بالوحدة، الذي يواصل الصفير في جوفك إلى حدّ الصّممْ. كم هو موحشُ أن تتعلق حميما بالآخرين، ولا يكون في نهاية المطاف إلاّ أنت. وكما هو موحشُ أن تتطلع أبدا للعناق، ولا يكون ثمة سوى ذراعيك!!

لقد كسرتني الأيام، وأمتلأ قلبي بالتجاعيد، وانتابني الوهن، وعششتْ عناكبُ الحزن في صدري، ولم أعد أحلم سوى بموت مريح وهادئ !!

أقول لك :

حين أخرج يوميا مع ( ميدو ) أضع في جيبه ورقة تحمل عنوان وهاتف البيت، والطبيب المعالج، وكذلك السفارة. كذلك أحمل معي نفس البيانات!

أنا أحمله معي للتمشي في الطرقات من أجل أن يرى الشمس والناس، ولكي نشتري ما نحتاجه للبيت. أضع تلك الورقة في جيبه، وكذلك في جيبي لكى لا أموت فجأة، واتركه وحيدا دون أن يتعرف عليه أي أحد !!

لماذا أشعر أنني سأموت فجأة؟

إنه بالتأكيد ذلك الشعور الحاد بالوحشة، والسير في كل الدروب، بلا دروب!!

عزيزي مصطفى

موحشةُ هي الكتابة!

إنك ما أن تنتهي من كتابة شيء، بكل صدق، حتى تشعر بأنك عريان تماما، ثم يغمرك الصقيع من كل جانب، ثم تكتشف في ذهول أن ما كتبته هو ما كان لديك من دفء!

بعض الكُتّاب يشعرون بالندم!

لكنني كنت قادرا دائما على أن أولد دفئا آخر، لأنني - ببساطة- لم تكن  لي أي أطماع ، ولم يكن لدي ما أخسره.  لقد كنت متشردا محترفا! إنني انفقت نصف عمري في الفنادق، والنوم في محطات القطار، والحدائق العامة، وأكلت لقمتي بغسل الصحون في المطاعم، والتودد للعاهرات!!

يا لهذا العمر المزرى!! 

أخي .. يا صديقي،

موحشة هي الكتابة!

لكن ما فعلته من أجلي- منذ أن كنتُ ساكنا في الفندق الكبير في بنغازي، وحتى عودتي من الدانمرك، ثم إقامتي في بنغازي طوال سنين، وبعدئذ إجراءات سفري من ( ميدو) إلى مصر، وغير ذلك كثير. كل ذلك يجعلني أهديك كل دفء القلب، والعرفان، والحب العميق، الذي لا يستطيع أن يحمله قلب بشري آخر!

أنا اشعر بالصقيع الآن، فقل لصديقنا عمر العفاس أن يمنحني فروة رأسه من أجل الدفء!! سلام

التوقيع – القاهرة يوم 10/5/1999

-----------  

بعد تاريخ هذه الرسالة بحوالي شهر ، عدت إليه في القاهرة، وجدت معه الراحل العزيز ونيس الدرفيلي وصهره، وقضينا أياما معا إلى أن غادر ونيس. وفي الليلة الموالية، وفيما كنا نتسامر اعطاني الرسالة التالية، وهي التي سوف ننشرها في الحلقة القادمة.

17- من أدبيات رسائل الفاخري
17- من أدبيات رسائل الفاخري
17- من أدبيات رسائل الفاخري

المزيد من بوابة الوسط

تعليقات

عناوين ذات صلة
وفاة فرانك ستيلا أحد أبرز أسماء الفن التبسيطي
وفاة فرانك ستيلا أحد أبرز أسماء الفن التبسيطي
مادونا تلهب ريو دي جانيرو في حفلة وُصفت بـ«الأضخم»
مادونا تلهب ريو دي جانيرو في حفلة وُصفت بـ«الأضخم»
بحضور فناني ليبيا.. توقيع كتاب «كواليس الكوافي للمسرح العام ببنغازي»
بحضور فناني ليبيا.. توقيع كتاب «كواليس الكوافي للمسرح العام ...
أوكرانيا تسعى لأن تكون «مرئية» خلال يوروفيجن
أوكرانيا تسعى لأن تكون «مرئية» خلال يوروفيجن
بينهم ليبيون.. أكثر من 1000 مبدع ومثقف من 141 دولة يدعون إلى وقف فوري للحرب في غزة
بينهم ليبيون.. أكثر من 1000 مبدع ومثقف من 141 دولة يدعون إلى وقف ...
المزيد
الاكثر تفضيلا في هذا القسم