Atwasat

الغماري.. بورتريه الوجوه وسحر الواقعية الفوتوغرافية

طرابلس - بوابة الوسط: عبد السلام الفقهي الأحد 19 سبتمبر 2021, 02:21 مساء
WTV_Frequency

ينحت الفنان أحمد الغماري أنماط الحياة وطقوسها عبر البورتريه، لا بتخطيطات أقلام الرصاص ومفارقات الأبيض والأسود فقط، لكن بمروره من بوابة الصورة عبر الواقعية الفوتوغرافية «photorealism».

شكلت تجربة الفنان التشكيلي فوزي الصويعي، العائد من أميركا بداية الثمانينات، محطة مهمة وملهمة لمخيلة الشاب الجامعي آنذاك، ومفازة ساقته لمطالعة تجليات وملامح هذا الفن وتتبع سيرة رواده عبر كتاب «فن اليوم» للإنجليزي إدوارد لويس سميت الذي مثلت له صدمة بالمنجز وسحر تنوعه وزخمه اللوني، دفعته إلى اقتراب آخر بقراءة بصرية لأعمال الفنانين تشوك كلوز، رتشارد إستاس، جون سولت، وقف من خلالها على شواهد حياة الهامش والشوارع الخلفية لمجتمعاتهم، والتفكر من ذلك في سؤال كيف تتم صياغة هذه البصمات بقواعدها الصحيحة وبروح المحلية في واقعنا الليبي؟

تتجه الريشة في إرهاصات التأثر إلى ملامسة موضوعات عامة تتشوف إلى مقاربات مدفوعة بحس المغامرة لا تتقاطع مع البيئة المحلية بحكم طبيعة ولادتها المتشوفة للتطبيق، ولكنها تساعد على صقل الذائقة ونحت ممرها إلى فضاء أوسع، وبذا أنتجت مخيلة الغماري أواخر الثمانيات أعماله البكر «عازف الساكسفون شارلي باركر»، «التمثال»، «جنرالات الحرب»... إلخ، هي صور لأحداث، ومعالم، وشخوص، وغيرها من الإطلالات التي توثق صلة المخيلة بتقاليد الواقعية الفوتوغرافية وأساساتها.

حكاية موضة
إلا أن الإمساك بمفاتيح هذا الفن أيضًا يتوجب معرفة خرائط مداخله التي تنهض في جوهرها على استلهام الأنى أو الوقتي، وإعادة طرحه بشكل آخر والتفكر عميقاً بفلسفة تنحو إلى رؤية أكثر شمولاً، عبر مزج مكونات المادة وأبعادها السيسيولوجية معتمدة على رصد المعاصر والمغاير لثقافة مصدرها الرئيسي «الغرب» وإنفاذها بصريًّا عبر معارض محلية وعالمية ثم لاحقًا بنفس أكثر تشبعًا بالفكرة ومدلولاتها يقدم نماذجه مثلًا في أعمال «مرآة البي أم دبليو»، «الفنار»، ففي الأول يحاول الاقتراب أكثر من الذائقة الاجتماعية ووجه يوثق لموجة الحفاوة بالموديل والنوع والجودة ومثوله الصارخ في الاهتمام باللمعان عبر مجسمه المقطعي «المرآة» هي حكاية لموضة مرت من هنا منذ زمن وتركت بصمتها في الصورة اللوحة.

وينهض في رسمة «الفنار» على ذات الأسس العاكسة لاحتياجات البيئة وتقاليدها، هو اشتباك لوني مع الماضي والعصرنة وكذا التاريخ والحداثة، وهو تفسير لسؤل ينشأ متعارضًا في ظاهره مع مفهوم الآنية التي تستند إليها أبجديات الواقعية الفوتوغرافية، وهو الإيحائية الماضوية للفنار؟ ويعزز الغماري إجابته إضافة لإشارتنا عن الحفول بالسالف والحاضر، تصويرها للشق الآلي أو الصناعي في النصف العلوي للفنار، وهو تأكيده على التمثل القوي للحضارة بأنفاسها الحالية، ولمحة من ملامح معركة الإنسان مع الظلام والجهل ورامز لفتوحاته التنويرية.

إلا أن ظرفية الحالة وخصوصيتها الزمنية وطقوس الواقع خلال العقود الماضية صنع حاجزًا أمام فن يتطلب فهم لا يكتنفه التأويل المسيس، وغياب مزاج ثقافي عن إدراك مغزاها الفلسفي، لذا كانت الرؤية تبحر في أتجاه آخر.

بورتريه الوجوه
ينبغي معرفة أن الانتقال لبورتريه الوجوه لم يكن بديلًا لبورتريهات التقانة وتمظهراتها الحياتية، لكنه تدرج للمخيلة يحمل في باطنه نضجًا معرفيًّا بالأدوات السالفة وارتقاءً فكريًّا يغوص مستكشفًا للذات المنتجة لها باستنطاق فلسفة الجسد، إذ يوائم الغماري في نقلته الأثيرة بين العقل والميتافيزيقيا عبر الوجوه، رسمًا يستحضر اللامادي بالفيزيائي، تجوال في الهواجس، الذكريات، الأحلام المختبئة خلف التجاعيد، إنه تحدٍ مباشر للتواري والتخفي والغموض، وهو كذلك قراءة لسيكولوجيا المجتمعات المعاصرة، ووثيقة تستجلي طبيعة المكان والزمان.

لا تتوقف دلالات البورتريه عند إطار الوجه فقط، بل تتبع تفاصيل تلك النظرات والقسمات إلى نسختها المكملة في البيت والشارع وتفاعلات حياتها اليومية، وكأنما هو شكل بانورامي لحكايا الوجه، الذي يمثل استكشافه تقديم جزء من إجابة لفضول المتلقي المتسائل ربما: من هو صاحب هذا البورتريه، هل هو حي أم ميت، لماذا هو متجهم، وعابس، حائر، ثم نكتشف شيئًا آخر، إنه تأكيد لمعادلة أن الفنان يرسم بروح المتلقي، فنرى في إحدى اللوحات صورة لوجه رجل وأخرى أمام منزله يغسل السيارة. النسختان تقدمان تفاسير للثبات والحركة وتخلخلان جزءًا من الانطباعات الأولية حال انتقالنا التسلسلي من الأولى إلى الثانية والعكس، وهو نسف فني مطلوب يلغي محدودية التأويل ويعقد صفقة دائمة مع المعنى المتمدد.

مفاهيم أخرى
وتتقوى هذه المفاهيم في أعمال أخرى كلوحة الشابين أوالجارين اللذين يناظران بعضهما البعض بقدر من الوجوم، ويعكسان حالة من الثبات أو الروتين والتكرار والرتابة اليومية التي تتحول تدريجيًّا إلى عقوبة، وكيف تنحو تعابير وجوههما وحركة جسديهما إلى مشهد ضاحك يناقض مجالها الأول، وهو دلالة احتياجنا أن نقع في مجال تأثير آخر ينتشل ويكسر قالب الطين ويخلق نوعًا من الانتعاش اللحظي.

وكما تمثل التقاسيم مجردة كشف ورؤية داخلية فإن احتجابها باليدين صياغة تمتاح من عنفوان وصخب المحيط، وقد يتصاعد إلى بشاعة تحتاج إلى تفادي حدتها بهذه الوضعية، التي تقول أيضًا إن واقع الفنان قاسٍ ومؤلم، وبالتالي نحتاج لحيلة ما تنقدنا من المواجهة المباشرة معه.

من أعمال الفنان أحمد الغماري (بوابة الوسط)
من أعمال الفنان أحمد الغماري (بوابة الوسط)
من أعمال الفنان أحمد الغماري (بوابة الوسط)
من أعمال الفنان أحمد الغماري (بوابة الوسط)
من أعمال الفنان أحمد الغماري (بوابة الوسط)
من أعمال الفنان أحمد الغماري (بوابة الوسط)
من أعمال الفنان أحمد الغماري (بوابة الوسط)
من أعمال الفنان أحمد الغماري (بوابة الوسط)
من أعمال الفنان أحمد الغماري (بوابة الوسط)
من أعمال الفنان أحمد الغماري (بوابة الوسط)

المزيد من بوابة الوسط

تعليقات

عناوين ذات صلة
قضاء نيويورك يعيد 30 عملا فنيا منهوبا إلى كمبوديا وإندونيسيا
قضاء نيويورك يعيد 30 عملا فنيا منهوبا إلى كمبوديا وإندونيسيا
خبراء يزعمون اكتشاف سر «لعنة» توت عنخ آمون
خبراء يزعمون اكتشاف سر «لعنة» توت عنخ آمون
ساعة جيب لأغنى ركاب «تيتانيك» تُباع بمزاد
ساعة جيب لأغنى ركاب «تيتانيك» تُباع بمزاد
طنجة المغربية تجذب كبار موسيقيي الجاز
طنجة المغربية تجذب كبار موسيقيي الجاز
الفنان مهدي كريرة يُدخل البهجة على أطفال غزة ويصنع الدمى من بقايا المساعدات (فيديو)
الفنان مهدي كريرة يُدخل البهجة على أطفال غزة ويصنع الدمى من بقايا...
المزيد
الاكثر تفضيلا في هذا القسم