Atwasat

الموت والحضارة

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 22 مارس 2020, 11:24 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

رغم أن الأفيال تذهب،حين تشعر بدنو أجلها، إلى مكان معين في الغابة وتمكث هناك بانتظار الموت، إلا أن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يدرك، منذ فترة مبكرة من حياته، بأنه آئل إلى فناء. أي أنه سائر باتجاه الموت. بمعنى أن الحياة طريق تقوده إلى الموت. والطفل البشري لا يأتيه هذا الإدراك مباشرة، وإنما عن طريق الثقافة التي يتلقاها في أسرته وبيئته الاجتماعية. وبما أنه ليس للحيوانات ثقافة، فإن هذا الإدراك لا يتمثل لها. وحتى في حالة الأفيال المشار إليها أعلاه فإن "الشعور" بدنو الأجل يأتيها، في ما يبدو، قرب النهاية فقط.

لإدراك الإنسان بأن نهايته الموت تأثير كبير على مجمل حياته. على ما اشتقه من أديان وما ابتكره من بعض الفنون. ويبدو أن تحول نمط العيش الإنساني من نمط الصيد وجمع الثمار والأعشاب، وهو نمط يقتضي منه التنقل، إلى النمط الزراعي واستئناس الحيوانات وتربيتها، وهو نمط يفرض الاستقرار، قد ولَّد ليه فكرة دفن موتاه، ثم إقامة المقابر على هيئات وأساليب مخصوصة.

في ظروف توطد المجتمع الزراعي نشأت لدى الإنسان فكرة تصور وجود حياة أخرى بعد الموت، تحت الأرض، مطابقة تقريبا للحياة السابقة فوقها، ونشأت بعد ذلك فكرة البعث والحياة من جديد فوق الأرض. وهاتان الفكرتان اشتقهما الإنسان من مراقبته الطبيعة. إذ لاحظ أن النباتات تذبل وتجف في موسم معين وتتناثر بذورها وينطمر كثير منها تحت التراب، ثم تعود إلى الحياة من جديد.

ويدل على الإيمان أو الاعتقاد بوجود عالم آخر بعد الموت، منذ فترة مبكرة في التاريخ البشري، وجود مقابر في الحضارات القديمة دفن فيها الناس جالسين في وضع الجنين وحولهم بعض الأدوات التي كانوا يستخدمونها في حياتهم فوق الأرض، لاستخدامها وهم أموات تحتها، أو حين يبعثون.

تطور الحياة الاجتماعية وتشابك وتعقد العلاقات بين أبناء المجتمع الواحد جعل سلوك الفرد إزاء غيره يكتسب أهمية خاصة. فهذا السلوك يكون مفيدا للفرد نفسه ولغيره، وأحيانا يكون مؤذيا للبعض. ومن هنا نشأت فكرة تعرض الإنسان الفرد للثواب والعقاب، ليس على الصعيد الاجتماعي وسلطات الدولة، وإنما في العالم الآخر. ومن هنا نشأت فكرة محاكمة الإنسان في العالم الآخر وإثابته، إذا كان عمله في حياته محمودا وعاقبته إذا كان مكروها مؤذيا.

لقد نشأت هذه الفكرة، حسب جيمس هنري برستيد، في مصر القديمة و "...لم تكن الفكرة في أقدم أشكالها تفترض حضور جميع الناس أمام المحكمة، إنما افترضت محكمة عدالة كالتي توجد على وجه الأرض يحضر أمامها الأفراد لإصلاح الخطأ، فكان في أول الأمر لزاما على الشخص المتهم فقط أن يحضر أمام المحكمة في ‘‘الحياة الأخرى‘‘ ليظهر براءة نفسه"* (ص40). أما "فكرة المحاكمة العامة فنشأت في باكورة العهد الإقطاعي قبل عام ألفين قبل الميلاد، ثم أصبحت المحاكمة فيما بعد في أوائل الدولة الحديثة (حوالي 1600 ق. م) لا تقتصر على حصر تفصيلي لكل المخالفات الخلقية، وإنما صارت امتحانا خلقيا قاسيا، بل معيارا شاملا للقيمة الخلقية لحياة كل إنسان"* (ص40-41).

ومن هنا نلاحظ الدور المهم جدا الذي لعبه إدراك الإنسان بأن نهايته الموت في مجمل الجوانب المعنوية، وحتى المادية، في الحضارات البشرية.

* جيمس هنري بريستيد، فجر الضمير، ترجمة: د. سليم حسن. الهيئة المصرية العامة للكتاب.