Atwasat

دعم السلع العقلية

سالم العوكلي الإثنين 11 يناير 2016, 10:31 صباحا
سالم العوكلي

بعد الفشل الذريع في تحقيق أي هدف من أهداف انتفاضة فبراير الأكبر من حجمها، وبعد أن نسي الناس أو تناسوا أحلامهم الكبرى، عاد الجدل البدائي حول نجاعة أحد الخيارين المتعلقين بالاستمرار في العيش مثل أي كائنات أخرى، بين خيار أن تعطى السلع التموينية الضرورية عينيا عبر الجمعيات الاستهلاكية أو يمنح المواطنون نقودا بدلا منها.

على أمل أن تتوقف مثل هذه الهبات البطنية التي تنطلق من مبدأ (جوع كليك يتبعك)

بدأت حكاية التعامل مع الجسد الليبي بشكل رسمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وفترة الإدارة البريطانية والسنوات الأولى ما بعد الاستقلال، عبر خطط لإعادة تأهيل الجسد الليبي كركيزة لبناء عضوي لما يسمى شعب في أدبيات الأمم والسياسة، فتوجهت المعركة إلى ما يهدد أهلية هذا الجسد عبر مكافحة الأمراض والآفات مثل الجرب والدرن والرمد والأنيميا وغيرها من رواسب فترات الجوع المتعاقبة، وتكفلت المنظمات الإنسانية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة بهذه المعركة الأولية من توزيع أقراص كبد الحوت إلى رش الأجساد بالمبيدات إلى توزيع الطحين الأمريكي الذي كانت تتحول أكياسه إلى ملابس للأطفال، ومنذ سنوات الحكم الملكي الأولى استمرت هذه المعركة من أجل إدراج الإنسان فيزيائيا في العصر ومن ثم بدء معركة محو الأمية، وشكلت المدارس التي يؤمها أغلب الأطفال والصبيان ميدانا لهذه المعركة حيث لم تكن فضاء لتلقي التعليم فقط لكنها تحولت إلى مراكز إعادة تأهيل صحي تكافح من خلالها تداعيات سوء التغذية والأمراض المستوطنة.

وكانت سياسة دعم السلع التموينية الضرورية، فيما بعد، جزءا من هذه الخطة من أجل تحصين البيت الليبي ضد المجاعة وسوء التغذية، لكن هذه الخطة التي كان من المفترض أن تكون مؤقتة أصبحت عادة دائمة حتى بعد تدفق النفط وتحول ليبيا إلى دولة غنية وفق أرقام الدخل القومي، لكن العادة تم استثمارها فيما بعد من قبل النظام الثوري السابق، لتصبح أداة لترويض الشارع، ومن ثم استخدامها فيما بعد لمقايضات قذرة تتعلق بالتهديد الدائم بقطع الدعم أو إيقافه لفترات متقطعة أو ربط الحصول على هذا الدعم بحضور جلسات المؤتمرات الشعبية أو إثبات أي طقوس ولاء أخرى للنظام.

لقد كان لهذا الدعم مبرره في بدايات تأسيس الدولة التي ورثت تركة صعبة جراء الحكم الفاشي والمجاعات والمعتقلات المتعاقبة، على أمل أن تتوقف مثل هذه الهبات البطنية التي تنطلق من مبدأ (جوع كليك يتبعك) أو التي من شأنها أن تجعل يد السلطة العليا خيرا من يد الشعب السفلى، كان من المفترض أن تحل محلها التنمية المستدامة والجدارة ورفع مستوى المعيشة، وهي أمور بقدر ما تحتاج إلى سياسات رشيدة وصعبة بقدر ما تهب المواطن استقلالية في مواجهة سلطة الدولة، وكان الخيار أن يتحول الاقتصاد الليبي إلى اقتصاد ريعي وأن يرسى مبدأ اتكالية المواطن واعتماده على الدولة وتكريسه ككائن استهلاكي محض ينتظر الفتات الذي ترمي له به السلطة بعد أن تشبع رغباتها، وبالتالي تحولت ليبيا إلى مؤسسة خيرية أو بالأحرى مؤسسة ضمان اجتماعي وتحول الشعب إلى قطيع لا يهمه سوى الحصول على علف يومه من الراعي.

عارٌ أن يعود النقاش مرة أخرى حول هذا التكتيك الاستبدادي الذي يستبدل الرفاه بالشفقة والتنمية البشرية بالبشر العبء على الدولة

أدى هذا الدعم المشبوه وغير المراقب إلى نشوء سوق سوداء موازية للمتاجرة بقوت الناس ومن ثم تفشي ظاهرة الفساد لدى القائمين على مؤسسة الدعم وتفشي ثقافة الإهدار لدى المستفيدين منها، فتحول الطحين والخبز إلى علف للحيوانات كما تجاوزت ملايين الأطنان من السلع المدعومة الحدود إلى أسواق دول الجوار.

أصبح طابور الجمعيات أحد مظاهر المجتمع الفقير الذي يعيش في دولة غنية، وأصبحت الحكمة الدارجة من وراء كل ذلك: (لا تجوّع كلبك حتى لا يعضك).

لتحاشي كل ذلك بدأ التفكير في أن يكون دعم السلع نقديا بدل أن يكون عينيا، وفي جميع الأحوال ظلت البطن غير الخاوية قاعدة هذه السياسة التي تضع المواطن على شفير الجوع دون أن تفكر في أن هذا المبلغ الإضافي الذي سيتقاضاه بدل أمنه الغذائي من المفترض أن يضاف له كحق طبيعي من خلال تحسين الدخل وفق مقدرات الدولة ووفق التضخم الذي حدث في العملة، لكن ظل الحرص على تقييد المرتب لعقود طويلة، بما فيها علاوة المولود التي لا تتجاوز الدينارين سياسة السلطة من أجل أن لا تتحول الرعية إلى مواطنة، ومن أجل أن تتحجم مطالب المواطن فيما يسد رمقه من دقيق وزيت، وأرز حتى لا يدفعه الترف إلى مطالب إنسانية تقض مضجع السلطة. وربما من هذا المنطلق الذي لا يخلو من هاجس التربية القاسية والتدريب المقنن كانت فكرة دعم السلع الغذائية التي من شأنها فقط أن تحافظ على الحياة ضمن جسد منهك لا ذخيرة له للتنطع بطاقاته الفائضة.

عارٌ أن يعود النقاش مرة أخرى حول هذا التكتيك الاستبدادي الذي يستبدل الرفاه بالشفقة، والتنمية البشرية بالبشر العبء على الدولة.

كنا ننتظر أن يتحول الدعم من دعم للبطن إلى دعم للعقل، من دعم للسلع المتعلقة بالشراهة إلى دعم للسلع المتعلقة بالثقافة، ومن مكافحة سوء التغذية إلى مكافحة سوء التنمية. كنا ننتظر التحول إلى دعم الكتاب ومشاريع الترجمة والمسرح والفنون الجميلة، ومنظمات المجتمع المدني، ومشاريع تفرغ المبدعين للإبداع، وغيرها من سلع تنمية العقل والوعي. لكننا وللأسف مازلنا في طور خطط التسمين المدروسة للبدن الليبي الذي شاء قدره أن يجعل من إجراءات الفقر عادة ومسؤولية وطنية، وهذا البدن يترهل ومعه يترهل العقل في معادلة تنطلق من فكرة القطيع التي مازالت تحكمنا، في ظل ما ينتجه الواقع من رعاة لا يستخدمون مصطلحات الشعب أو الشارع إلا في مزادات السياسة والشرعية.