Atwasat

(الليبي ماطّو)... تفتيش في أجندة محترب

نورالدين خليفة النمر الإثنين 17 أغسطس 2015, 09:28 صباحا
نورالدين خليفة النمر

"الخبراء الفطريون" بالتعبير "الخلدوني" في وحشّي "العمران البشري" الليبي - ولا أعني بذلك: الخبراء البحثيين والسياسيين المحترفين الذين لاوجود ملموسا لهم- يطرحون السؤال المحيّر الذي يطرحه الجميع بمن فيهم الليبيون وهو: هل تنجح المفاوضات الماراتونية التي أشرفت عليها الأمم المتحدة تقريبا منذ سنة فيما سمّته بـ"الحوار الليبي" بين الأطراف الليبية المتنازعة، والتي تدلف الآن في محطّاتها الأخيرة منتهية ربما في"جنيف" بما ستنتجه من حلول وتوافقات سياسية ومؤسسّية ملموسة في لجم المحتربين الليبيين عن تطبّع القتل والعنف، الذي صار غالبا على طبيعتهم؟ تلك التي هيأتها لهما حقب تاريخية أظلمها عقود الاستبداد الأربعة العجاف.

المعضلة الاجتماعية المزمنة في ليبيا التي شخصّها بتهكّمه السفسطائي اللوذعي - منذ أكثر من أربعة عقود -الكاتب الليبي "صادق النيهوم" في:(الجهل)، وليس في (الأميّة) ،كما تبادر إلى ذهن الذين نهضوا بالبرنامج التنموي مستمدّين شرعيتهم السياسية بتصدّيهم لمحوها، في ليبيا الحديثة. بينما أبقي على الجهل متربصا في أمكنته المعتمة في الأرجاء الواسعة لليبيا الموصوفة بــ"صندوق الرمال المغلق" قاتلا مأجورا، تتجلى اليوم إحدى تداعيات جرائمه القاسية في بث روح الهروب إلى التشكيك (جهلا) في كل شيء وإلغاء كل مختلف، وهو الثابت النفسي العنفي الذي صار سمتا لليبيين الذين أجّجوا منذ سنة نار الحرب بينهم، فتحوّلوا إلى احترابيين عبثيين عتاة.

وهو ما بات مدعاة لاندهاش "الآخرين" و مثار استغرابهم الذين قدّم القذافي لهم عن الليبيين طوال أربعة عقود صورة سلبية ومحيّرة؛ بل صادمة ومحبطة لليبيين أنفسهم الذين اكتشفوا أنهم متوّهمون صورة جاهلة عن ذواتهم ممكنّة لأفاتي التطرّف والإرهاب المصطنعين، وجعلهما مميّزا للشرائح العمرية الليبية المنتشر في يدها السلاح اليوم وبشكل اعتباطي، والفاعلة ماديا على الأرض والمعيقة منذ منتصف العام 2012 وحتى اليوم لأي مشروع سياسي وطني لإعادة تصنيع ليبيا ممكنة. وهو المشروع الذي تحقق إلى حدّ ما باستقلال ليبيا عام 1951 وانتهى بانقلاب العسكر المشئوم عليه بقيادة القذافي نفسه عام 1969.

ما نجح فيه الدكتاتور القذافي مرّ عقوده الأربعة المظلمة هو أن يحفر في وجدان ما سمّاه وقت ذاك عبر خطابه القومي الشعبوي بـالجمهور أو "الشعب العربي في ليبيا"، ثم لاحقا التنظيري "بالجماهير" وأخيرا الأدبي! بـ"الحقراء" نفق السأم المظلم الذي أحكم بناء عدميته وخواءه مطبقا عليهم فيه، وهو النفق الذي نعيش الآن امتداده وهو ما رأينا منذ أزيد من أربعين سنة بدايته ولن نلمح له نهاية على الأقل في مقبل الأيام إن لم تتدخّل بدون إبطاء إرادة دولية حاسمة، لحماية القلّة من السلميين الليبيين من مواطنيهم الفوضويين المحتربين، كتلك التي منحتهم استقلالهم عام 1951 ونشرت بينهم سلما أهليا بقوّة القانون القاهرة في كل بقعة من أرضهم، وهي من حمتهم أيضا من كتائب القذافي إبّان ثورتهم عليه في 17 مارس 2011، ولكن هذه المرّة يتوجب عليها بناء على مواثيقها المصاغة في مشروعها البكر لاستقلال ليبيا، أن تحميهم من أنفسهم، أي من أخوتهم وبنيهم العابثين بمصائرهم الذين استضافوا كل "المنغمسين" في سأم التأسلم والتأدلج، لينضاف إلى السأمات (الجينية) الليبية: كالقبليات أو ما أسماه "عبد الله الغذامي" القبائليات والتعصّبات الجهوية المؤدلجة، وكل اللعنات الأخرى التي ينتجها الجهل والطمع، وهو ماصار يبعث من جديد الضجر والقرف وهو ما كنّا تصوّرنا واهمين أننا قطعنا أسبابه بعد انتصار ثورة17 فبرايرالمعجزة عام 2011.

السأم أو الضجر كونه تعبييرا عن خواء الحياة البشرية وعقمها، والذي يمكن عدّه مفتاحا لفهم حالة الاحتراب الليبي بكل عناصر مشهدها البدائي ومكّوناته الراهنة. قبل أن يكتب عنه كتأزم حضارة أنتج حربا كونية كارثية الفيلسوف الفرنسي "جان بول سارتر" معبرا عنه أنطولوجيا بـ"الغثيان" عام 1938 في روايته الحاملة هذا الإسم، كتب عنه عام 1862 أي قبل ثمانية عقود مواطنه "غوستاف فلوبير"- الذي للمفارقة سيكتب عنه سارتر قبيل وفاته عام 1972 دراسة مثيرة بعنوان (عبيط العائلة)- . فـ"فلوبير" عبّر ربما "بأنطولوجية سيكولوجية" عن الوجه الآخر البدائي للسأم أو الغثيان السارتري في روايته:(سلامبو) التي وقعت أحداثها الاحترابية في القرن الثالث قبل الميلاد في مكان يخصّنا هو "قرطاجة- تونس" التي كان مواطنوها وسادتها "ا لكنعانيون- الفنيقيون" الذين صاروا "بونيقيين" طرفا ضّد رعاياها من المحاربين الليبيين المجندين في جيشها لعونها في نزاعاتها ضد إمبراطورية روما في جنوب البحر المتوّسط، والذين وصفوا في الأدبيات التاريخية الرومانية بـ(المرتزقة) والذين نرى اليوم بعضا من سلالتهم ينشرون بيننا عنفا "ميليشياويا" مماثلا لذلك الرعب الوثني في قساوته، الذي وصف "فلوبير" عدا لامعقولية تدميره وخرابه وسيزيفية معطياته بغموض دوافعه، بدائية ضجره وخواء روحه.

وهو ما سيتبيّن لنا من قراءة سيرة المحارب الليبي (ماطّو)، الذي قاسم الوجيهة (سلامبو) الابنة العزباء الفاتنة لـ(حملقار برقة)، القائد العسكري لجيش قرطاجة، (البطولة- المضادة) في رواية فلوبير التي وقعت في يدي بمحض الصدفة ودون دراية بموضوعها بعيد قرائتي لروايته البيوغرافية الأولى (التربية العاطفية)، التي أدراني بها مؤرخ الأدب الشهير "غوستاف لانسون". تمّ ذلك على ما أذكر في عطلة مدرسية ملولة في صيف لاهب ورطب عام 1972 والتي أعدت قراءتها هذه الأيام في عطالتي الاضطرارية بسبب الاحتراب الليبي البدائي ذاته، متأملا فيها لغرض كتابة مقالي مفتشّا في (أجندة الاحترابي الليبي ماطّو)، ذلك الذي وإن ألهب تمرّده عواطف مراهقتي، مثيرا مشاعري الوطنية التي كانت متأججة، وحيّة وقت ذاك، إلا أن سأمه، وملاله سكن ذاكرتي، وأحاسيسي طوال أربعة عقود ونيّف. تلك الملالة والسآمة (البوفارية) المصطلح الذي نحته دارسو فلوبير توصيفا لروح أدبه نسبة لبطلته "إيما" في روايته (مدام بوفاري)، التي تماهى فلوبير شخصيا بروحها البرجوازية السئمة بقولته الشهيرة: (إيّما بوفاري هي أنا).

من ثلاثة كتب تخص المكتبة التاريخية القرطاجية التي تعرّضت للحدث الاحترابي القرطاجي- الليبي (241ـ 237 ق.م.)، يبرز كما هو معتاد في الدراسات المتعلقة بالتاريخ القديم للمنطقة كتاب"تاريخ شمال أفريقيا" لـ"شارل أندري جوليان" الذي توخىّ إنصاف الليبيين في حربهم مؤّولا ما وصف في الأدبيات التاريخية القرطاجية بـ :تمرّد الجنود المرتزقة، بالهبّة الوطنية بله"الحرب الطبقية" وأنّ زعامة"ماطوّ" الذي أشعل الثورة: هي نداء استجاب له الجنود المتمرّدون(حضرا وبدوا) الذين نغلت قلوبهم حقدا على قرطاج التي تلاعبت بأجورهم، وبمسألة تعويضهم عن القمح الذي استهلكته خيولهم في حرب صقلية. "فرنسوا دوكريه" الذي التزم في كتابته مسرودات المؤرخ"بوليب" Polybe المعاصر للحرب- وهي السرديات التي اعتمدها فلوبير أيضا- ينظر في كتابه"قرطاجة إمبراطورية البحر" إلى المسألة المطلبية- الحقوقية للجنود المتمردين من زاوية مغايرة متوّسعا في تحليل الخلفيات السياسية التي ابتعتثها، منتقدا معالجة الحكومة"البونية" المهيمن عليها من"الأوليغاركيين" الذين ارتكبوا أخطاء بتصرّفهم بتأخير دفع مستحقات المجنّدين بسبب الإيفاء بغرامة الهزيمة المستحقة لروما، وثانيا بدفع الجنود الذين وصفوا بـ"المرتزقة الممتهنين" لمزيد الابتزاز توقيّا من مصير تسريحهم من الخدمة ليجدوا أنفسهم فجأة أمام حالة من عدم الاطمئنان للغد.

وهو ما أشعل حربا ضروسا اشتدّ أوارها لأزيد من ثلاثة سنوات مكتسحة ممتلكات قرطاجة الأفريقية، واضعة الدولة على حافة الهاوية. إلا أن تحليل"دوكريه" المسهب أغفل ما وصفته" مادلين هورس ميادان" في كتابها "تاريخ قرطاج" بالمشكلة البنيوية في الجيش القرطاجي المؤسس على عوزه من الجنود من مواطنيه"القرطاجيين" وحاجته"للمرتزقة" الذين تم اختيارهم من جنسيات أوقوميات متباينة تباين أسلحتهم المستعملة ولغاتهم وهو الأمر الذي جعل قادتهم الذين من جنسهم يقومون بإعطاء الأوامر بلغاتهم الخاصة، مما شكّل خللا تكتيكيا مكّن بعض القادة أن يلعبوا دورا في تمرير أجندتهم الخاصة كـ:الكمباني- عند فلوبير- الأغريقي" سبنديوس" وهو مسترّق يخشى أن يطالب به سيدّه الروماني الآبق منه ويقدّمه للعذاب والموت وفقا للقانون، والمتمرّد الليبي"ماطّو" الذي لم يكتف بقيادته الجنود وتحريضهم على التمرّد والتسبب في حرب موجعة سفكت فيها دماء غزيرة بل قام- وهو مابنى عليه فلوبير عقدة روايته- منتهكا محرّمات عقيدة القرطاجيين بسرقة(حارس المدينة): الخمارالمقدس المزين بالجواهر،الذي تتشح به(الإلهة تانيت) من معبدها بغرض إهانة"سلامبو" التي تأبّت عليه فتعلّق بها حبا ومقتها في الآن نفسه وهو الخمار الذي جلب الموت لها بملامستها له وهي تسترّده بحيلة بارعة من براثن الاحترابي"ماطو".

في اللغة الآيطالية"ماطّو" matto صفة تطلق على الشخص الأحمق، الأهبل، وهو المعنى الذي ترمي إليه الدارجة الليبية باقتران"الماطّو" بـ"البهلول" وهو ما رمى إليه بطريق غير مباشر فلوبيرالذي أدان غالبا في كتاباته ماوصفه بالبلاهة البشرية التي تشجّعها الثورة وتخلص إلى سحقها وهو ما أبانته مخيّلته الروائية بجلاء في النهاية المؤسفة للمحترب ماطوّ.

"فيكتور بومبير" الذي تتبع في كتابه"فلوبير" الخيط السردي في الرواية التاريخية"سلامبو" رسم لنا خطاطة لمراحل داء"احتراب السأم" الذي تشخص فيما أسميته تجاوزا بالأجندة أي الفعل الاحترابي العدمي الذي انغمس فيه"ماطّو" ورهطه من الجنود الليبيين والذي يبتدئ عادة باندفاع مبهم، يرتبط فيه اضطراب الحواس بتوق النفس، الذي يستعر بحثا مجنونا عن الحسيّات، يغذّيه الشعور بإحساس جديد في امتلاك ما يأبى أو يتأبى عن أن يمتلك، يحدث هذا المرض أو الداء خللا مفجعا في نظام الإحساس، ويؤدي إلى احتداد الطمع.

الرمز الحّي لهذه الرغبة المتأججة في التملّك يجسّده"ماطّو" ورهطه الذين يمثّلهم من الاحترابيين الليبيين الذين التأموا تحت قيادته، والذين يزيد العائق أيّا كان من حدة رغائبهم التي تسير بالتوازي مع جهلهم بما هم فيه راغبون، وإذا كانت هناك لحظة"استراحة محارب" لهذا الإلحاح فهي مجرّد فسحة مجال ليدّون ضميرهم كل يوم التعاسة والشقاء والاشمئزاز.