Atwasat

عبقرية أميركا

فريد زكريا الخميس 27 نوفمبر 2014, 01:07 مساء
فريد زكريا

يعتقد ثلثا الأميركيين أنَّ البلاد تسير على الطريق الخطأ، وهي نسبة استطلاع رأي لم تتغير كثيرًا خلال ثلاث سنوات. وكانت نتائج الانتخابات النصفية مجرد انعكاس آخر لهذا الاستياء واسع الانتشار. ولكن، إذا ما نظرنا إلى بقية العالم، فسنجد أنَّ اللافت للنظر هو تقدُّم الاقتصاد الأميركي مقارنةً بالاقتصادات الكبرى الأخرى. فاليابان تتراجع مرة أخرى نحو الركود وتجنبت ألمانيا بالكاد الانزلاق في آخر، وهو الثالث لها منذ العام 2008. ويقول الرئيس أوباما إنَّ الولايات المتحدة وفَّرت مزيدًا من فرص العمل خلال مرحلة انتعاشها أكثر من بقية العالم الصناعي كله.

ما السر في ذلك؟ يعتقد الكثيرون أنَّ الاقتصاد الأميركي لديه بعض المزايا الكامنة التي يتفوق بها على المنافسين الرئيسيين بما في ذلك تمتعه بهيكل أكثر مرونة وتقاليد أقوى للمشروعات ومجتمع أكثر حيوية ديموغرافيًّا، فضلًا عن ذلك، هناك كتابٌ جديدٌ رائعٌ يخبرنا بأننا لم نر كل شيء حتى الآن.

يبدأ بيتر زيهان كتابه «قوة عظمى بالصدفة» The Accidental Superpower بالجغرافيا، مشيرًا إلى أنَّ أميركا هي أكبر سوق مستهلك في العالم، ويرجع السبب في ذلك إلى الأنهار. فنقل البضائع عن طريق المياه أرخص 12 مرة منه برًّا (وهذا هو السبب وراء ازدهار الحضارات حول الأنهار دائمًا). وحسبما يقول زيهان، تمتلك أميركا ممرات مائية صالحة للملاحة- على امتداد 17.600 ميل- أكبر من بقية دول العالم مجتمعة. وعلى سبيل المقارنة، حسبما يلاحظ، تمتلك الصين وألمانيا حوالي 2.000 ميل لكل منهما. ويمتلك العالم العربي كله 120 ميلاً.

لكن هذه مجرد البداية فحسب. «إن أعظم شبكة أنهار في العالم، تعتلي بصورة مباشرة أكبر مساحة من الأراضي الصالحة للزراعة، وهي منطقة الغرب الأوسط الأميركية». وبالإضافة إلى ذلك، هناك موانئ المياه العميقة التي تحتاج إليها من أجل الحصول على السلع من وإلى بقية العالم. فكثيرٌ من البلدان ذات السواحل الطويلة لا تمتلك إلا عددًا قليلاً جدًّا من الموانئ الطبيعية. على سبيل المثال، تمتلك أفريقيا ساحلاً طويلاً مثيرًا، ولكنها، حسب زيهان، «ليس بها إلا عشرة مواقع لخلجان ذات قدرة وقائية كافية لإقامة موانئ».

إنَّ التباين الجغرافي في أميركا لافت للنظر مرة أخرى. تُعتبر بوجيه ساوند وخليج سان فرانسيسكو وخليج تشيسابيك أكبر ثلاث موانئ طبيعية في العالم. «ويفتخر خليج تشيسابيك وحده بامتداد أطول من الساحل الآسيوي الكامل من فلاديفوستوك إلى لاهور» حسبما يذكر زيهان.

يعتقد الكثيرون أنَّ الاقتصاد الأميركي لديه بعض المزايا الكامنة التي يتفوق بها على المنافسين الرئيسيين بما في ذلك تمتعه بهيكل أكثر مرونة وتقاليد أقوى للمشروعات ومجتمع أكثر حيوية ديموغرافيًّا

ساعدت كل هذه العوامل على خلق أكبر سوق مستهلك للطاقة في العالم، وهذا بدوره يخلق فائض مدخرات خاصًا واقتصادًا ديناميكيًّا موحدًا يتمتع بأنَّه مكتفٍ ذاتيًا على نحو ملحوظ. شكّلت الواردات فقط 17 في المئة من الاقتصاد الأميركي في العام 2012، وفقًا للبنك الدولي، مقارنةً بـ46% لألمانيا و25% للصين، وسينخفض الرقم الأميركي حيث تتناقص الكميات التي تستوردها من النفط الأجنبي.

ذكر كثيرٌ من الناس أنَّ ثورة الطاقة الأميركية سوف تمنحها مزايا اقتصادية كبيرة. يتفق زيهان مع هذا الرأي، ولكنه يؤكد على المدى الذي ستسببه هذه القوة في عزل أميركا عن بقية العالم. بالنسبة لمعظم التاريخ الحديث، تكمن المصادر الحيوية للطاقة (في الشرق الأوسط) بعيدًا عن مراكز الإنتاج الاقتصادي (في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية). ولكن الآن، بفضل الغاز والنفط الصخري، تمتلك أميركا الشمالية كثيرًا من الطاقة التي تحتاجها داخليًّا. وليس بها حاجة كبيرة لحراسة الممرات البحرية في الخليج العربي، وهي مهمة تضمن الآن في الغالب الممر الآمن للنفط من المملكة العربية السعودية إلى الصين.

يعتبر زهيان أنَّ النفط أحد الأسباب الرئيسية التي تحتاجها أميركا للانخراط في العالم. فبينما تزيد الفوضى حول العالم، كما يقول، تقل الأسباب المقنعة التي تدفع أميركا نحو بذل الدماء والمال لتحقيق الاستقرار فيه. بمعنى من المعاني، يرى زيهان جزءًا من نفس الاضطراب الدولي الذي يرصده بريت ستيفنز في كتابه الجديد الحماسي «التراجع الأميركي» «America in Retreat»، ولكن زيهان يقول إنَّ السبب في ذلك لا يعود إلى ضعف أوباما وإنما عودة أميركا المنطقية لاستراتيجية ما قبل العام 1945 التقليدية، بمعنى أكثر تحديدًا الازدهار بعيدًا عن الأمراض التي تصيب العالم.

إنني لست متأكدًا مثل ستيفنز أو زيهان من أن بقية العالم ذاهب إلى الجحيم. ولست متأكدًا مثل زيهان من أنَّ مزايا أميركا تكمن في هيكلها البنائي بشكل أساسي. فإذا نظر المرء إلى السنوات الخمس الماضية، بطريقة مقارِنة مرة أخرى، فسيجد أنَّ السياسة العامة الأميركية تبدو في الواقع مثيرة للإعجاب. فقد تحركت واشنطن على وجه السرعة وبشكل خلّاق لمكافحة الأزمة الاقتصادية العالمية العام 2008 بثلاث طرق: سياسة نقدية صارمة وسياسة مالية صارمة وإصلاح صارم للقطاع المصرفي وإعادة رسملته.

لم تتخذ أي بلد غنية أخرى إجراءات أكثر، وواجهت اضطرابات أكثر في طريقها نحو استعادة الوضع الطبيعي.

أصيبت واشنطن بالشلل والاستقطاب منذ استجابتها للأزمة المالية. ولكن هذا لا يعبر عن مجمل السياسة الأميركية. فوراء الشكل الخارجي، يتحرك رؤساء البلديات والمحافظون للوصول إلى المبادئ الحزبية المشتركة وتوثيق الشراكة مع القطاع الخاص وإجراء الإصلاحات والاستثمارات بغرض النمو في المستقبل.

عندما كتب توكفيل عن أميركا في الثلاثينات من القرن التاسع عشر، عبَّر عن دهشته بحيوية البلدات والقرى من أسفل إلى أعلى. وهذه العبقرية الأميركية لا تزال على قيد الحياة، مهما كان ما يفكر فيه معظم الأميركيين.
(خدمة واشنطن بوست)