Atwasat

ستوكهولم والمتلازمات الأوروبية

منصور بوشناف الخميس 30 مايو 2024, 03:53 مساء
منصور بوشناف

وصم الآخر أو «العدو» بصفات مسيئة ورسم صورة شيطانية له، كان من أدوات الحروب والصراعات بين الشعوب والأمم التي ظلت تتغير وتتطور عبر التاريخ، فكانت ترسم صورة ذلك العدو حسب أدوات كل عصر، فكان يُصور كشيطان أو كمتوحش وآكل لحوم بشر أحيانا وأخرى كلص وقاطع طريق، أو كأحمق يثير السخرية والضحك، ثم تحولت تلك الصورة إلى صورة اليهودي القذر والبخيل أو المسلم المتوحش إلخ، من الصور النمطية المسيئة والمنفرة من الشعب الآخر والأمة الأخرى المنافسة والعدوة.

كانت صناعة تلك الصور من مهام الآداب والفنون لكل شعب من تلك الشعوب، فكانت الخرافات والأساطير تؤلف وتغرس في عقول أبناء كل أمة، كانت الأغاني والرقصات والأقنعة والملاحم ترسم الآخر، ككائن مخيف وقذر يهدد وجودنا إن لم نقضِ عليه ونزحه من طريقنا كأمة أو كدين.

الآخر لم يكن دائما أجنبيا غازيا من خارج أرضنا، بل هو أيضا ابن القبيلة المجاورة لنا أو العائلة التي تجاورنا. لذا ظللنا نرسم الصورة التي تدعم دفاعاتنا ضد الآخر الذي قد يهدد وجوده وجودنا.

رسم صورة العدو تطورت مع تطور أدوات الرسم والتصوير والمعرفة، فكانت الخرافة، ثم الأديان، ثم أخيرا العلم، أدوات الأمم لرسم صور أعدائها.

العلم كان آخر هذه الأدوات، فمع تطور العلوم الحديثة بدأت أوروبا تحديدا في استخدامها ووصم شعوب العالم الثالث بما يبرر استعمارها لتلك الشعوب. فكانت «البيولوجيا» ونظريات التطور ثم كانت «الأنثروبولوجيا» وأخيرا كان علم النفس والتحليل النفسي أدوات أوروبا السحرية لكشف همجية تلك الشعوب، فالعلم الأوروبي يبرهن على صدق غالبية خرافات أوروبا عن هذه الشعوب، فهم يأكلون لحوم البشر، وهم لا يبعدون عن الحيوانات المتوحشة في سلم التطور كثيرا.

إن العلم الحديث يتطور داخل رحم «الأيديولوجيا الاستعمارية» ولا يبدو إلا أداة في خدمة تلك الأيديولوجيا لتطوير أسلحتها مدافعَ وأفكارا وتصاويرَ.
كانت نظريات «السوبرمان» و «العرق الأعلى» و «الدماء الزرقاء» خرافات أوروبا الحديثة لنفسها وللآخرين لتأكيد تفوقها العرقي «البيولوجي» والعقلي على الشعوب الأخرى وبالتالي حقها في إبادتهم أو إدارتهم.

تناقضات أوروبا الداخلية وصراعاتها القومية والطبقية فجرت بعض هذه القنابل الأيديولوجية داخل أوروبا وبين طبقاتها الاجتماعية ولازالت هذه القنابل تنفجر من حين لآخر وسط مؤسساتها وشوارعها، فبعد الحرب العالمية الثانية بدأت الحرب الأوروبية الباردة، وأخذ الصراع الطبقي في أوروبا أشكالا مختلفة، فكان صراع النقابات مع الشركات الكبرى، وكان صراع الأجيال الشابة ضد شيوخ الرأسمالية المحافظة، كانت حداثة أوروبا الصلبة تعاني سيولة سرديات علومها الكبرى وتفككها، لتوجه علومها «الأيديولوجية» الأحدث ضد المنشقين والمارقين من أبنائها وتضمهم للأمم المتخلفة السوداء والسمراء وإن كانوا شقرا.

في ستوكهولم، عاصمة السويد، وبعد استيلاء عصابة على بنك، بالضبط كما استولت أوروبا على ثروات شعوب بكاملها منذ قرن مضى، وأظهر المحتجزون كرهائن داخل البنك تعاطفا وتفهما للخاطفين اللصوص، هرع العلم لتبرير ذلك التعاطف واصفا أولئك المخطوفين المتعاطفين مع خاطفيهم بالمرضى النفسيين الذين يعانون من مرض تعاطف وتعلق المخطوف بالخاطف والضحية بالجلاد والمحكوم بالحاكم، وسجل هذا المرض تحت اسم «متلازمة ستوكهولم» ليكون هذا المرض أو هذا الوسم علامة يوسم بها كل من يتعاطف مع حركات التمرد ضد هيمنة البنوك والشركات الرأسمالية على المجتمع.

العلم «الأيديولوجي» كان يرى أن تعلق المخطوفين الأفارقة مثلا بخاطفيهم من المستعمرين الأوروبيين منذ قرن مضى كان تعافيا وشفاء من أمراض التخلف والتوحش والهمجية، أما تعلق وتبرير المخطوفين الأوروبيين بخاطفيهم فليس إلا مرضا خطيرا.

متلازمة ستوكهولم، وغيرها الكثير من خرافات العلم الأيديولوجي التي أطلقتها أوروبا كعلم محايد، ليست إلا أحد أسلحة الخرافات التي ما زال العالم يستخدمها لوصم الآخر المختلف كمريض أو كمتوحش أو كيهودي أو كمسلم، وغيرها من متلازمات أوروبا وخرافاتها الأيديولوجية.