Atwasat

أطياف فرانز فانون

منصور بوشناف الخميس 23 مايو 2024, 06:31 مساء
منصور بوشناف

من الظواهر التي طغت على حياة الشعوب المستعمرة قبل انطلاق معارك تحريرها الوطني، كان تفجر العنف الاجتماعي بين طوائف وقبائل وأفراد تلك الشعوب، كانت القبائل تتقاتل فيما بينها لأتفه الأسباب، وكانت الطوائف تخرج ميراثها من العنف ضد شركائها المضطهدين في الوطن، وكان الجار يقتل جاره، كان العنف أبرز مظاهر ونتائج الاستعمار الأوروبي لتلك الشعوب.

كل ذلك العنف والتوحش يأتي دائما بعد انتهاء المقاومة الأولى للغازي الأوروبي واستقرار الأوضاع لصالحه وهزيمة المقاومة، كان على «الحرة أن تأكل ذرعانها» كما لم يتوقع المثل الشعبي الليبي.

في فيلم «سنوات الجمر» للجزائري «الأخضر حامينا» وبعد تدشين سد على أحد الوديان يمنع وصول المياه إلى أراضي قبيلتين جزائريتين تنشب معركة شرسة بينهما للاستحواذ على ما رشح من السد من مياه قليلة، كانت معركة حياة أو موت، دون الانتباه للسد الذي منع عنهم المياه وحجزها لمزارع المستوطنين الدخلاء، كان سد المستعمر قد تحول إلى قدر لا يمكن مقاومته ولا حتى الاعتراض عليه وتحولت القبيلة الأخرى إلى غازٍ ومعتدٍ يجب طرده وحتى محوه من على وجه ما تبقى من الأرض.

تلك المشاهد وذلك العنف والتوحش الذي مارسه أبناء الوطن الواحد ضد بعضهم بعضا، كان من أبرز نتائج العنف الذي مارسه المستعمر ضد شعوب المستعمرات والذي صورته أدبيات الاستعمار كتجل للتوحش الذي يسكن تلك الشعوب ويبرر احتلالها من أجل أنسنتها.

كانت سنوات القهر والتجويع والقتل كفيلة بخلق عنف اجتماعي غير مسبوق، عنف أعمى لا هدف له، يقتل فيه الأخ أخاه ويحرق فيه المتوحش بيته، يديره المستعمر ويوجهه حيث يشاء وتتطلب مصالحه.

الطبيب النفسي والمفكر المارتينيكي الفرنسي ثم الجزائري «فرانز فانون» كان ابن مستعمرة فرنسية، عمل بالجزائر وتعرف على ما يعانيه الجزائريون من اضطهاد ورأى نتائج ذلك الاضطهاد وهو يتفجر عنفا أعمى ولا هدف له ضد بعضهم بعضا، ثم وهو يتحول إلى عنف تقوده الثورة الوطنية ضد المستعمر وله هدف واضح ومقدس هو تحرير الوطن والذات.

كان «فرانز فانون» وفي كتابه «قناع أبيض وجلد أسود» قد نزع القناع الثقافي الاستعماري الأبيض الذي ظل يخبئ وجهه الأسود وأدرك ذاته المختلفة والمطموسة والمغتربة، والتحق بالثورة الجزائرية وصار من قادتها الفكريين وصار كتابه «معذبو الأرض» من أهم أدبيات ثورات التحرر الوطني المسلحة التي تستخدم العنف كأداة لتحقيق أهدافها الوطنية.

«فرانز فانون» صار أهم منظريّ ما عرف بالعنف الثوري ضد المستعمر من أجل ليس تحرير الأوطان من المستعمر بل لتطهير ذات الإنسان المستعمر والمضطهد من اغترابه وعنفه المدمر ضد نفسه.

في «أطياف ماركس» يقول «جاك دريدا» إن الرأسمالية تقبل بعودة ماركس كأطياف فكرية شريطة ألا تؤدي تلك الأطياف إلى عودة التمرد الذي أوحى بالعصيان والنقمة والثورة المسلحة والاندفاع الثوري.

أطياف «فرانز فانون» التي ظلت محجوبة بأقنعة بيضاء لعقود طويلة، ومطاردة بعيدا عن وعي شعوب العالم الثالث التي رزحت تحت قمع واضطهاد وكلاء الاستعمار المحليين كما أسماهم «فرانز فانون» تطوف الآن بخيالات وعقول هذه الشعوب التي تغرق في دماء حروبها الأهلية المستعرة بين طوائفها وقبائلها وعصاباتها المسلحة، التي يقتل أبناؤها بعضهم بعضا من أجل ما تسرب من مياه سد الوكيل المحلي للاستعمار الذي استحوذ على كل المياه.

إننا نعيش حقا مرحلة ما قبل حروب التحرير كما عاشها وأدركها «فرانز فانون» وإن أخذ الوكيل مكان المستعمر، فإن عنف المواطن ضد المواطن، والمضطهد ضد رفيقه في معاناة الاضطهاد، والقبيلة ضد القبيلة والمدينة ضد المدينة لا يختلف عن حروب ما قبل التحرر من الاستعمار.

إن تحول أطياف فانون إلى مناضلي جبهات التحرير الوطنية ضد المستعمر ووكلائه ونزع قناعنا الأبيض عن بشرتنا السوداء، وتحول هذا العنف نحو السد الذي بناه وكلاء المستعمر بيننا وبين الوطن وبيننا وبين ذواتنا ستكون لحظة التنوير في مسيرنا ولحظة العودة إلى «ذواتنا» المضيعة.