Atwasat

الجواميس البرية تحمي صغارها

سالم العوكلي الثلاثاء 16 أبريل 2024, 11:22 مساء
سالم العوكلي

كتبت كثيرًا عما يعنيه لي شهر أبريل، الذي أسميه موسم كآبتي، عندما تحول اسم هذا الشهر وحروفه الأخيرة إلى قافية لأنكى أنواع الهتافات الفاشية، التي تطالب عبر إيقاع مرعب بهدر الدماء والتصفية والشنق، والأكثر نكاية أنْ تصدح هذه الهتافات في أحرام أو حرمات الجامعات التي كانت كل عام تنتظر برعب يوم السابع من أبريل كيوم لتصفية الحسابات وللتصفية الجسدية، والأكثر نكاية من النكاية، أن التصفيات كانت تطال غالبًا الطلاب المتفوقين أو أعضاء هيئات التدريس المتميزين.

كما أن صبيحة الهجوم الإيراني على فلسطين المحتلة كانت توافق الغارة الأميركية على طرابلس وبنغازي العام 1986 كرد على تورط النظام الليبي في تفجير مقهى ببرلين، حيث حلقت طائرات الناتو بحرية فوق رؤوس شعب مرهق دون قبة حديدية تحميه.

كنت قابعًا في بيتي في ظل كآبة هذا الشهر، وخارجًا للتو من ذكرى أليمة توافق 11 أبريل، ذاك اليوم الدموي الذي عشته قبل 42 سنة في فرع جامعة (قاريونس) بالبيضاء، عندما بدأت الأخبار تتهاطل حول هجوم انتقامي محتمل من قبل إيران على الكيان الصهيوني كرد على قصف هذا الكيان للقنصلية الإيرانية في دمشق، وقبيل منتصف الليل بدأت الإثارة التي قد تتحول كما يقول بعض المتابعين إلى حرب عالمية ثالثة منطلقها الشرق الأوسط الذي كان له نصيب من شظايا الحربين العالميتين، الأولى والثانية، التي انطلقت من قلب أوروبا.

تقول الأخبار إن إيران أطلقت مئات من الصواريخ والطائرات المسيرة صوب (إسرائيل)، بينما الشاشات بدأت تصطاد الصور من بعض محطات الإطلاق أو سماء دول الممر، وكل العيون مصوبة صوب السماء المعتمة في انتظار ما سوف يحصل. ويقول الخبراء العسكريون أن طائرات إيران المسيرة بطيئة وقد تصل خلال 7 ساعات، أما صواريخ كروز فتستغرق 4 ساعات، والصواريخ البلستية نصف ساعة، وكان الجميع إضافة إلى كاميرات مراسلي القنوات المنصوبة في الشرفات في انتظار وصول هذه المقذوفات إلى سماء فلسطين المحتلة، وكنت بدوري أقلب القنوات الفضائية المتنافسة على السبق لأعرف ردة فعل الكيان الصهيوني الذي يضع شعبه تحت حماية القبة الحديدية، بينما صفارات الإنذار تنطلق في مدن عديدة، وما يسمى الجبهة الداخلية تطلب من المستوطنين الاحتماء في أماكن آمنة، وبعد ساعات بدأت كتل من اللهب تشبه الشهب البطيئة تلوح في السماء، وسرعان ما تحول الأمر إلى حفلة استعراض لما يشبه الألعاب النارية. وكنت دائما أعترض على تسمية ما يطلق في الاحتفالات السعيدة من ألعاب متفجرة ترسم لوحات جمالية بالألعاب النارية وأميل إلى تسميتها (ألعاب ضوئية)، وفعلًا تحولت الحرب بين إيران وإسرائيل إلى ما يصح أن نسميه ألعابًا نارية يتابعها العالم وكأنه في عيد رأس حقبة جديدة من التاريخ.

مرت هذه الصواريخ والطائرات المسيرة بأجواء دول عربية تحيط بالكيان الصهيوني، مثل العراق وسورية والأردن، وانقسم من هم تحتها إلى جهات رسمية تحاول اعتراض هذه المقذوفات وتدميرها، وجهات شعبية تلتقط لها الصور والمقاطع وتنشرها مرفقة بتهليلات التكبير والفرح بهذا الهجوم الذي قد يشفي الغليل من كيان مجرم يخوض حرب إبادة في غزة وصل عدد ضحاياها إلى 34 ألف قتيل، معظمهم أطفال ونساء، و76 ألف مصاب لا يجدون مستشفيات أو أدوية أو غذاء.

انتهت الحفلة النارية الاستعراضية مع ساعات الفجر الأولى دون إصابة في الكيان الصهيوني، ودون خسائر تُذكر على الأرض، وفي اليوم التالي بدأ الكلام. الإيرانيون يتحدثون عن انتصارهم بما نشروه من فزع في مدن الكيان، والإسرائيليون يتحدثون عن انتصار نظامهم الدفاعي الذي أسقط 99% من الطائرات المسيرة والصواريخ بمختلف أنواعها، بينما يتحدث آخرون لا يريدون للحرب أن تتوسع عن نتيجة التعادل بين الخصمين.

الولايات المتحدة تقول أن نظام دفاعها الجوي أسقط معظم المقذوفات الإيرانية قبل أن تصل إلى أجواء إسرائيل، وكذلك تقول بريطانيا وفرنسا، وإيران تقول أن حربها لم تكن مع إسرائيل فقط ولكن مع كل هذه الدول التي تتمترس في قواعد وحاملات طائرات تحيط بهذا الكيان، ويضيفون أنهم تواصلوا مع البيت الأبيض قبل الهجوم باثنين وسبعين ساعة، ليخبروهم عن الضربة الانتقامية، ويبدو أن البيت الأبيض لا مانع لديه، خصوصًا مع ظهور بوادر عن عقوق الابنة الضالة وخروجها عن سيطرته في كثير من القرارات، وربما يحتاج لهذا النوع من الهجوم ليقول لساسة الكيان أنتم لا شيء من دوننا، وبالتالي جهزوا أسطولهم الجوي في المنطقة للدفاع عن هذا الكيان لإثبات هذه الحقيقة، لأننا نعرف أن دفاعات إسرائيل الجوية وقبتها الحديدية كانت تخترقها صواريخ حماس البدائية.

الخبراء الاقتصاديون المحايدون وغير المحايدين يتحدثون عن تفاوت الأرقام بين تكلفة الهجوم وتكلفة الدفاع، حيث تذكر العديد من المصادر أن تكلفة المقذوفات الإيرانية حوالي 10 ملايين دولار، بينما تكلفة التصدي لها تجاوزت المليار دولار، ويقول المستشار الاقتصادي في رئاسة أركان الكيان الصهيوني، رام أميناخ، أن تكلفة التصدي للهجوم الإيراني بلغت (بين 1.08 و1.35 مليار دولار).

وتذكر القناة 12 الإسرائيلية عن وزارة الدفاع أن جميع طائراتها المقاتلة كانت في الأجواء إبان ساعات الهجوم الإيراني خوفًا من تعرضها للقصف في قواعدها، كما تؤكد أن القوات الأميركية والبريطانية اعترضت أكثر من 100 طائرة إيرانية مُسيرة خارج إسرائيل. بما يشي بقبة حديدة إقليمية أوسع يقيمها حلف الناتو حول لقيطته إسرائيل التي تخوض في الأثناء حرب إبادة لم يشهد لها التاريخ مثيلًا تحت سماء هذه الألعاب النارية، حيث يعيش ملايين الفلسطينين في غزة منذ شهور تحت قبة من الصواريخ والقنابل العنقودية والطائرات المقاتلة، وأحدث ما أنتجته مصانع السلاح في أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، تستهدف الأحياء السكنية والمدارس والمستشفيات وأطقم الإسعاف ومقرات الأمم المتحدة والصحفيين وكل ما يتحرك تحت قبة الجحيم هذه.

في هذه الحالة تبدو ما تسمى (دولة إسرائيل) شبيهة بعجل الجاموس البري طري القرون الذي تحيط به الجواميس الضخمة بقرونها الطويلة الصلبة من أجل حمايته، ولكن إلى متى؟ خصوصا ونحن نعرف أن العجل والجواميس سترُهق مع الوقت، خصوصًا والتاريخ يخبرنا أن ممالك إسرائيل القديمة التي أقامتها فوق أرض كنعان في فلسطين كانت رهنا بمتغيرات دولية في موازين القوى، كما حدث مع دويلاتهم المستوطنة أمام صراعات القوى الكبرى آنذاك، الفراعنة والأشوريين والبابليين واليونانيين والرومان، تتقاذفهم رياح هذه القوى كلما تغيرت الموازين، وكل مرة كان يقضى على الاستيطان اليهودي في أرض الأموريين (أموريا) الكنعانية التي تعني (شعب السماء).

ومن المفارق أن من أعاد اليهود إلى فلسطين بعد الأسر البابلي وبنى لهم الهيكل من جديد هو ملك إيران الفارسي (قورش)، إلى أن احتل الرومان فلسطين والشام وتاه المغتصبون اليهود في الشتات حتى القرن العشرين. وبالتالي في إن موازين القوى والأنظمة التي تحكم العالم والولاءات والمصالح مصيرها أن تتغير ومعها يتغير كل شيء، ولم يحدث أن قامت دولة أبدية في ظل حماية خارجية كما يخبرنا التاريخ، ولكل كائن طفيلي دورة استيطان تنتهي كما يخبرنا علم الأحياء.

عادة ما تصاحب الحروب أو الأزمات مصطلحات جديدة، أو سياقات لغوية أحيانًا تكون غريبة، ولها طابع تبريري لِما يُرتكب من جرائم، أو ما يحدث من أخطاء أو تجميل للهزائم، مثل: الانسحاب التكتيكي، أو الحرب النظيفة، أو نيران صديقة، أو «الطريق إلى الأمام» الذي كان الشعار الأميركي للانسحاب الكارثي من أفغانستان بعد أن خاضت حروبًا سمتها «عملية الحرية الدائمة» و«عملية حارس الحرية».

يظهر الآن سياق إيراني جديد يحاول أن يبرر العجز الذي استمر فترة طويلة أمام ما تقوم به إسرائيل من استفزاز وعمليات اغتيال وقتل وقصف للإيرانيين في سورية ولبنان وداخل إيران، وهذا التعبير الذي تقترحه القريحة هو «الصبر الاستراتيجي»، وتعتبر إيران أن هذا الصبر انتهى بحفلة الألعاب النارية في سماء (إسرائيل) حيث في الوقت نفسه كان أحفاد (شعب السماء) يُقتلون دون هوادة، بينما دول السبع العظمى حاضنة هذه الفاشية، تجتمع لمناقشة فرض عقوبات على إيران وإعلان الحرس الثوري الإيراني جماعة إهابية، كرد على حفلة ألعاب لم يُصب فيها طفل واحد، بينما يُقتل في الجوار أكثر من 14 ألف فلسطيني بدم بارد، وبن غفير، وزير الأمن القومي في الكيان الصهيوني، يأمر بمنح مكافأة لجندي صهيوني ظهر في مقطع مصور وهو يقتل طفلًا فلسطينيًا، وهذا ما يجعلنا نتساءل ما هو مفهوم الإرهاب الذي يعتمده الغرب؟ والذي يبدو تعريفه الغربي بأنه يعني: أي جرم يرتكبه شخص (ضعيف) من دولة ضعيفة ضد أي مصالح أو مؤسسة أو دولة أو مواطن من مواطني الدول (القوية) والعكس ليس صحيحًا.

أما الدول العربية المتفرجة على هذه المذبحة التي تطال البشر والقيم والأخلاق، فأتمنى أن يكون صبرها الذي استمر عقودًا صبرًا إستراتيجيا!!. وهذا ليس غريبًا على أمة اعتبرت خساراتها لكل الحروب مع الكيان الصهيوني هزائم استراتيجية.