Atwasat

إصبع واحدة تكفي لاكتشاف إنسان

عمر الكدي الإثنين 15 أبريل 2024, 03:50 مساء
عمر الكدي

في العام 2008 اُكتشف عظم إصبع عمرها 40 ألف سنة في كهف دينيسوفا جنوب سيبيريا، وتمكن فريق يقوده عالم الوراثة السويدي سافنتي بابو من تحليل الحمض النووي من عينة أخذت من هذه الإصبع، ليكتشف أنها تعود لنوع من الإنسان غير معروف، أطلق عليه اسم إنسان دينيسوفا نسبة للكهف، وهو تقدم مذهل لأن العلماء قبل فك شفرة جينيوم الإنسان المعاصر وتطوير تحليل الحمض النووي، كانوا في حاجة على الأقل للجمجمة، لتحديد نوع الإنسان الذي تنتمي إليه، كما اكتشف بابو أن هذا الإنسان تزاوج مع الإنسان المعاصر، وخاصة مع أجداد سكان جنوب شرق آسيا، حيث يحملون 6% من جينات ذلك الكائن الذي لم نحصل حتى الآن إلا على إصبع واحدة من كفه.

في العام 2022 منحت جائزة نوبل في الطب لسافنتي بابو لاكتشافه هذا، ولعمله الطويل في تحليل جينات إنسان نياندرتال، وفي محاضرة له بعد فوزه بالجائزة، الذي تزامن مع ذروة تفشي وباء كورونا، أوضح بابو أن البشر المعاصرين الذين يحملون نسبة من جينات إنسان نياندرتال أكثر عرضة للإصابة بفيروس «كوفيد»، وتظهر عليهم أعراض حادة، بينما لديهم مناعة من فيروس «إتش آي في» المسبب لمرض الإيدز، وهذا يعني أن معرفة جينات أسلافنا سيساعدنا على علاج أمراضنا الوراثية.

يبدو أن اكتشافات بابو حدثت معنا في الحقل الثقافي أيضا، فالأوروبيون لم يتمكنوا من الخروج من عصور الظلام، وصنع عصر الأنوار إلا بعد أن راجعوا جيناتهم الوراثية، فعادوا إلى أرسطو والفلاسفة الإغريق حتى ولو استعانوا بالأندلسي ابن رشد الذي أطلقوا عليه «الشارح الأكبر»، فأوروبا تعرفت على أرسطو من خلال ما كتبه ابن رشد، بينما رفض العرب والمسلمون مراجعة جيناتهم الثقافية، بل نكلوا بابن رشد وأحرقوا كتبه، وثمة رواية تقول إن ابن رشد بعد وفاته بعدة أشهر في مراكش، أمر الخليفة الموحدي أبويعقوب المنصور، بنقل رفاته لدفنها في مسقط رأسه بقرطبة، فوضعوا رفاته على دابة ولموازنتها وضعوا كتبه في الناحية الموازية.

لاحظ المفكر المغربي عبدالفتاح كيليطو في كتاب له عن ابن رشد، أن نقل رفاة ابن رشد هو نقل فكره الذي مجد العقل من عالمنا الإسلامي إلى العالم الأوروبي، كما لاحظ أن أشد أعداء ابن رشد أبو العباس السبتي الفقيه المتصوف، أصيب بالحمى يوم وصول ابن رشد إلى مراكش، فدعا عليه بالموت فمات ابن رشد في اليوم التالي، وبعد نقل رفاة ابن رشد إلى قرطبة توفي السبتي فدفن في القبر نفسه الذي كان ابن رشد مدفونا فيه، أي أننا استبدلنا العقل بالنقل.

أليس في هذه القصة مفارقة عجيبة، فمن إصبع صغيرة تمكن بابو بعد أخذ من أربعة إلى خمسة مليغرامات من تحليل الحمض النووي، من اكتشاف نوع جديد من البشر انقرض منذ 40 ألف سنة، بينما نحن نبشنا قبر ابن رشد في مراكش، وأرسلنا عظامه كاملة مع الجمجمة إلى أوروبا، ودفنا السبتي الفقيه المتعصب مكانه، فانتقل العقل إلى الأوروبيين وبقى السبتي الفقيه المتعصب يحكمنا من قبره. هذه الوقائع حدثت في القرن الثالث عشر، وفي القرن الحادي والعشرين، لا يزال السبتي يتلو علينا فتاويه ومواعظه مستعينا بالقنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي ويمكن الاتصال به على هاتفه المحمول، وهي أشياء كان قد حرمها أول ما وصلت إلينا، ثم قبلها على مضض وحرم الفكر والعلم الذي كان وراء هذه الاختراعات.

كرم الأوروبيون ابن رشد فقد ذكره دانتي أليغري في الكوميديا الإلهية ضمن الفلاسفة غير المسيحيين، كما أطلقوا اسمه الأوروبي أفيروس على كويكب، وداعبه بمحبة كاتب الأرجنتين واللغة الإسبانية الكبير خورخي لويس بورخيس في قصة له، تصور ابن رشد وهو يدرس في قرطبة أعمال أرسطو، ويبحث عن ترجمة لكلمتي الكوميديا والتراجيديا، بينما الشارع تحته يعج بالحياة، وعلى جانبيه تفيض الكوميديا والتراجيديا، في حين كفره ابن تيمية وأخيرا تخلى عنه الحاكم أبويعقوب المنصور، الذي حرضه على البحث في الفلسفة ووفر له كل ما يحتاج وعينه قاضيا على قرطبة، ولكنه تنكر له بعد أن هدد الفقهاء بإثارة العامة ضده، وهو درس لكل المفكرين العرب بألا يثقوا في الحكام مهما كانوا متحمسين للثقافة والمعرفة والفلسفة، فعندما يقف الفقهاء والوعاظ فوق المنابر تهتز عروشهم، وهذا ما لا يستطيع المفكر والمثقف أن يفعله.