Atwasat

شطرنج

منصور بوشناف الخميس 11 أبريل 2024, 10:34 مساء
منصور بوشناف

كان الشطرنج اللعبة التي حاول غالبية السجناء السياسيين في السجون الليبية تعلمها، ربما كانت بالنسبة لهم كما لغالبية الناس لعبة ملوك وسياسيين وأدمغة متميزة، الكل انخرط في تعلمها ولعبها وأضعف الإيمان مشاهدة مبارياتها، كانوا يتحلقون حولها، يصفقون لنقلة ويتأوهون لضياع بيدق وقد يبكي بعضهم لموت وزير. الشطرنج شكل ساحة انتصار لذوات مقهورة ومركز تمارين لأدمغة تقاوم التبلد والذبول والأهم لخيال يحاول أن يشكل واقعًا أجمل وأكثر إنسانية.

يوفرون من خبزهم اليومي، يعجنون ما وفروا ويخلطون بعض العجين برماد السجائر الأسود ويتركون البعض أبيض كبياض الخبز لينحتوا قطع الشطرنج وينشروها تحت الشمس حتى تجف، بيادق وقلاع وفيلة ووزراء وأحصنة تخرج من ذلك العجين السجني العجيب ثم وبسرعة ترسم الرقعة بالفحم ويكون كل شيء جاهزًا للعب لتبدأ الدروس ثم المباريات.

كنت بالطبع قد انخرطت في التعلم والتمارين واللعب، لم أتفوق ولم أتميز كما في كل الألعاب التي سبق وجربت بل ظللت أعرف اللعب جيدًا ولا أجيده. كان اللعب بالنسبة لي متعة نظرية ككل الفنون التي أحب كالرسم والنحت والموسيقى أعرفها وأعشقها دون أن أنخرط في ممارستها أو إتقانها. كانت يدي عاجزة عن مجاراة خيالي ورغباتي. عجز اليد عن مجاراة الخيال وإنجاز مخططاته ظل عقبة، بالضبط كما ظل عجز الخيال عن قيادة اليد إلى إنجاز ما يريد.

صراع اليد والخيال تواصل عبر التاريخ ولم يصلا للانسجام والتكامل إلا في حالات فارقة في التاريخ، فكان صراع الواقع والحلم والألعاب والتطبيق، صراع الحرية والضرورة، الشكل والمضمون، ثنائيات ظلت تتراكم ويكبر تناقضها ويحتد صراعها إلى ما لا نهاية.

التناقض الذي كنت أتأمله في تلك المباريات السجنية كان تناقض لعبة الملك السجين والقائد الأسير والبيدق الجلاد، كانت لعبة المسرح، حيث تختزل الممالك بمدنها وأريافها وسهولها وجبالها في رقعة صغيرة، وحيث يقف الملوك والملكات في لحظات ضعفهم الإنساني رغم جبروت حراسهم وجيوشهم، وتتحول فؤوس الأقنان إلى سيوف إعدام ترعب الملوك.

المسرح تلك المساحة الصغيرة، رقعة شطرنج الحياة والتاريخ والوجود والعدم التي تعيد صياغة ما جرى وما يجري، حيث بإمكان بيدق بائس وصغير أن يقلب ملكًا أو وزيرًا، أن يهدم قلعة ويطيح بفيل ضخم. الشطرنج «عمل خيالي» وإن تعين أمام أبصارنا حتى إيهامنا بواقعيته، إنه لعبة موازية للواقع مثله كمثل المسرح حيث يسعى الخيالي إلى إيهامنا بأنه الواقع ونتواطأ معه في ألعابه تلك.

في «لاعب الشطرنج» قصة الكاتب «استيفان اسفايج» يتجلى ذلك الانفصال بين اليد والعقل، فبطل القصة الذي خبر لعبة الشطرنج نظريًّا عبر كتاب وحفظ الكثير من خططها ومناوراتها دون أن يلمس قطعة شطرنج أو يجلس إلى رقعة ويواجه منافسًا، لأنه تعلم اللعبة وحيدًا في معتقل ولم يتوفر له إلا كتاب يحوي أهم المباريات العالمية في لعبة الشطرنج، ورغم تلك المعرفة والدروس لم يجرب أن يلعب بعد خروجه من المعتقل. في عرض البحر وفي سفينة يكتشف الركاب وجود بطل العالم في الشطرنج بينهم ويقنعونه باللعب مع مجموعة منهم ويقبل ليهزمهم مرات متتالية، المعتقل السابق ولاعب الشطرنج النظري، يقترب منهم يراقب اللعب ولا يتدخل ثم وبعد هزيمة فريق الركاب أمام البطل العالمي المتعجرف يبدأ في التدخل، لا يلقون بالًا له في البداية ولكنهم بعد تكرار الهزائم يستجيبون ويحققون الانتصار على بطل العالم المتعجرف.

في مباراة السفينة تلك بين بطل العالم ومجموعة من الركاب ينتصر البيدق على الوزير ويقطع فأس القن رأس الملك.

ما كان بإمكان المعرفة أن تحقق شيئًا من أحلام صاحبها دون فريق الركاب وما كان بإمكان الركاب أن يحققوا انتصارهم دون صاحب المعرفة. خزان المعرفة في مختلف التخصصات ظل الركن المغيب من قبل من يديرون بلداننا وظل قادتنا يرفضون بل ويعادون أصحاب المعرفة مما أدى وسيظل يؤدي إلى كل ما كان من خراب وانهيار لكل مشاريع النهوض.