Atwasat

لا عيد في غزة!

سالم الهنداوي الخميس 11 أبريل 2024, 04:39 مساء
سالم الهنداوي

أكمل المسلمون في العالم صيامهم، ولم يُكمل الفلسطينيون في غزة موتهم. ذهب شهر الصيام عن عواصم العرب المضيئة بالحكايات والذكريات والخذلان والأوهام، وبقت أشهر الموت الطويلة في فلسطين تجرف غزة في الظلام الكبير لأمةٍ أغمضت عينيْها وتاهت عن السبيل.. فأين كان مكان العيد تحديداً هنا في البلاد التي صمتت أم هناك في البلاد التي صرخت؟ وهل كان العيد للأحياء أم للأموات؟!

الزهرة الباكية الحزينة عند النبع القديم جنوبي غزة تبكي وحدتها وغربتها بعد أن غاب عنها الأطفال المندفعون إلى الموت بلا جدارٍ يحميهم، وقد سقط الجدار فوقهم وأسقف البنايات وأبراج الحديد والصحون والهوائيات!

لم ير الأطفال قاتلهم في ثورات الغُبار العنيفة، فقد كان القاتل يقصف من بعيد.. من وراء متاريس صنعها الخوف، ومن السماء مثل طائرٍ جبان!

كُلُّهم على «غزة» أمريكان وإسرائيليين، يقودهم الحقد الأعمى على شعبٍ أعزل استهدف أطفاله كما ألعابهم.. لا ماء لهم ولا غذاء ولا دواء ولا كساء سوى لون الدم والهشيم.. والعالم الذي عجز عن حماية الإنسان لم يستطع توفير الكفن الأبيض للشهداء، لأن الكفن من لون السلام الذي أغرقته إسرائيل بالدم!

هذه هي «الهولوكوست» الحقيقية، وحرب الإبادة التي لم يشهد لها العالم مثيلاً على الملأ، وأمام كل الدول التي تراقب عن كثب مستويات الجريمة وعنفها وهمجيتها، وتستجدي القاتل أن يتوقّف قليلاً، ليشرب القتيل بعض الماء المعلّب، ويقتات من رغيف مساعدات الموت الدولية التي انقطع سبيلها تحت النيران، فالحاكم في المكان هي «إسرائيل»، والمحكوم هو العالم الذليل.. وليس أذل من العالم سوى العرب الذين بسطوا لإسرائيل قرار الحرب على غزة المقاومة رداً على انتصار «7 أكتوبر» المجيد، ونسى العرب أن انتصار «العبور» التاريخي كان في أكتوبر 73.

لا أبواب في غزة موصدة، حتى أبواب المشافي تناثرت أمام الحقد «الصهيوني» الأميركي - الإسرائيلي على شعبٍ أراد النصر في أكتوبر كما أراد الصيام في رمضان والعيد مع العرب المحتفين بدينهم ودنياهم، لكن شاءت الأقدار أن يرى أطفال غزة النعامات العربية وهي تغطس رؤوسها في الرمال، وتنام فلا تسمع صوت الرجال.

لا هدايا عيد في غزة، لأنها مدينة بلا أطفال.. مدينة أغرقها «العم سام» بكُل أنواع الهدايا المتفجِّرة، حتى صار الأطفال فحماً وروحاً متّقدة في ظلام العرب السديم. مرّ الشتاء عنيفاً على غزة، كما مرّت الطائرات في أزيزها الصاعق وهي تشير بأصابعها على الأطفال، ليسقطوا طفلا طفلا على الأرض المحروقة.

من غزة جمع الكاتب «أحمد عرفة» أنفاس من بقى على قيد الحياة.. يجوب القطاع المدمَّر وقد علا صوت الموت في الأرجاء بعيداً عن ملامح العيد. تقول إعلامية فلسطينية: «سأفتقد أبى الذي كان يوقظنا لصلاة العيد، ولم نعد نرى الحلوى». ويقول مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي: «يمرُّ علينا العيد ونحن نعيش سياسة تجويع حقيقية قاسية». وبينما يقول الدفاع المدني في غزة: «لم تعُد هناك مساجد لأداء صلاة العيد»، يقول صحفي فلسطيني: «عيدنا بلا لون أو طعم.. ولأول مرة يمرُّ علينا ونحن بعيدون عن منازلنا ونفتقد عائلاتنا».

ويعبّر فلسطينيون: «أطفالنا يطالبوننا بملابس جديدة للعيد ولا نستطيع تلبية رغباتهم»، حيث يتحدث «سيف» إلى والده «كمال» قبل أيام قليلة من حلول عيد الفطر المبارك، ويسأله: «أبي هل تتوقع أن نعود لمنزلنا في هذا العيد؟»، فينظر الأب، الذي يعيش في خيمة لا تتعدّى مساحتها 3 أمتار × 3 أمتار في مدينة رفح الفلسطينية، بحسرة إلى ابنه، ويقول: «..وهل تتوقع أن نجد بيتنا سليماً بعد أن تركناه؟ هل ستشعر ببهجة هذا العيد ووالدتك وأشقاؤك الثلاثة استشهدوا خلال القصف؟!». هنا يتذكر «سيف» ذكريات عيد الفطر العام الماضي، حيث ذهب مع والده ووالدته وأشقائه الثلاثة لشراء الملابس الجديدة، والشوارع تتزيّن لاستقبال العيد، بينما ينظر الآن حوله فيجد آلاف الخيام تسكن بها مئات الآلاف من النازحين يبحثون عن طعام يكفيهم وسط نقص شديد للسلع الغذائية والمياه الصالحة للشرب.

وحلَّ علينا عيد الفطر المبارك، حيث استقبله العالم العربي والإسلامي بالبهجة والفرحة بارتداء الملابس الجديدة، وتحضير الحلوى، ووضع قائمة للمتنزهات التي ستزورها العائلة، بجانب التزاور وتوزيع العيديات، بينما هناك بقعة في هذا العالم لا تعرف معنى للسعادة، ولا تشعر بأي مناسبة دينية، يعيشون فقط على أمل أن يبقون أحياء في عالم يستهدفهم بالموت.

يقول الكاتب «أحمد عرفة»: «عيد سعيد على كل البلدان العربية والإسلامية ولكن ليس سعيداً على أهالى غزة.. القطاع الذي يتعرّض لحرب إبادة جماعية منذ أكثر من ستة أشهر متوالية. لا استعداد للعيد مثل ما يحدث في كل البلدان العربية والإسلامية، فعيد الفطر عند المسلمين شيء ولدى قطاع غزة شيء آخر، فالأول يسوده الفرحة والسعادة والإجازات والتخطيط للزيارات والفسح، بينما الثاني يتساءل: كيف نبقى أحياء بعيداً عن قصف الاحتلال؟! لا استعدادات لصلاة العيد أو تزاور الأهل والأصدقاء أو الفسح، حيث لم تعد هناك مساجد يصلى فيها صلاة العيد أو مواقع أثرية يزورنها، بعد أن دمّر الاحتلال ما يزيد على 200 موقع أثرى بالقطاع، وأحرق الحدائق والمتنزهات، وكل شيء جميل في غزة».

يقول «عيسى الثوابتة» مدير عام المكتب الإعلامي الحكومى: «يمرُّ علينا العيد وقد نجح الاحتلال «الإسرائيلي» في قتل الفرحة والابتسامة بقلوب شعبنا الفلسطيني الكريم، الذي يناضل من أجل نيل حريته التي كفلتها له كل القوانين الدولية، إذ يمرُّ العيد وقد بلغ عدد الضحايا 120.000 ضحية من المدنيين الفلسطينيين، بينهم قرابة 33.000 شهيد و7.000 مفقود و75.000 جريح ومصاب و3.500 أسير، وما نسبته 73% من هؤلاء الضحايا هُم من الأطفال والنساء والمدنيين. كما دمّر الاحتلال أكثر من 360.000 وحدة سكنية، وهذا يعني أن قرابة 1.500.000 شخص فقدوا مأواهم بشكل كامل، ولن يقضوا هؤلاء العيد في منازلهم، وهذه كارثة إنسانية حقيقية، فمن الصعوبة بمكان أن يتجرّع الإنسان كل هذا الكم الكبير من الألم والحسرة نتيجة عدوان الاحتلال الغاشم. كما دمّر الاحتلال بشكل كامل أكثر من 1.000 مسجد وكنيسة ومدرسة وجامعة ومستشفى».

ويضيف «الثوابتة»: «يمرُّ علينا العيد ونحن نعيش سياسة تجويع حقيقية قاسية في جميع محافظات القطاع، وبشكل أكثر فظاعة في محافظتي غزة والشمال، حيث يعيش الأهالي مجاعة شرسة راح ضحيتها مئات الأطفال والنساء وكبار السن والمرضى، ولم تتوقّف حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها جيش الاحتلال بحق شعبنا الفلسطيني وبحق المدنيين والأطفال والنساء على وجه الخصوص».

ويتابع «الثوابتة»: «لن يمسح التاريخ ما جرى من مجازر وجرائم حقيقية بحق شعبنا الفلسطيني، وستبقى دماء الشهداء الكرام منارة لنا في طريق التحرير والخلاص من هذا الاحتلال «الإسرائيلي» القاتل».

لا عيد في غزة.. السماء سوداء والأرض حمراء، والناسُ تحت الركام يتبادلون التهاني بنصر الشهداء على الأحياء.

أقصر خطبة قالها الشيخ الغزّي «محمود الحسنات» في جمعة رمضان الأخيرة: «إذا كان أكثر من 30 ألف شهيد و70 ألف جريح ومليوني مشرّد لم يستطيعوا إيقاظ الأمة فما لكلماتي أن تفعل؟!».. أقم الصلاة!!