Atwasat

طرابلس هذ السجن الكبير!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 09 أبريل 2024, 10:00 مساء
أحمد الفيتوري

طرابلس تبدو من نوافذ الفندق مدينة مأسورة مثلي، فهي في سكون مريب وظلمة، هذه المدينة العريقة تبادلها الحكام الأجانب، منذ أسسها الفينيقيون وحملت وعرفت بالاسم الروماني، أو كما تقول الكتب، فيما تقول الوقائع أن حاكمها الآن من جلدتها، لكنه أنكى وبالًا عليها من الأجانب.

لما ولجت بنغازي وفي ساحة المحكمة كانت الحشود تهتف: «طرابلس العاصمة نبو ليلة حاسمة»، أي الرجاء في طرابلس أن تحسم نفسها وأن تحسم مسألة الثورة، وفي جلساتي مع شباب في بنغازي كانت شكواهم من المركزية المقيتة أي من طرابلس، لم أستوعب تناقضهم حينها، وفي هذا الفندق وتلك الزنزانة انتابني شعور، أننا كائنات متناقضة، لكن أحببت ذلك.

وأنا في خضم مشاعري المتدفقة في معزلي هذا، قطع استرسالي، رنة عالية ومستمرة من تليفون الفندق، ما نسيته أصلًا، وفي وجل رفعت السماعة، على الخط صوت قريب إليَّ، ممن أعرفه أكثر من نفسي، صرخت في حبور: جدي جدي كيف تمكنت منهم؟

صباح اليوم التالي عند الإفطار جاءني شاب معتد بذاته، يتكلم الفرنسية بركاكة لكنه يظن نفسه فيكتور هوجو، وقف عند طاولتي يحاضر عليَّ كبروفيسور في أي شيء أي لا شيء، ثم ذكر أنه الناطق باسم الدولة الليبية، وأنه كان على اتصال بالخارجية الفرنسية: لقد عاهدتهم أنك ستعودين إلى بلادك، فالقائد قائدي معمر القذافي لا يأسر صحفيًا صاحب رأي، عند الباب التفت إليَّ وأعلمني أنني أستطيع أن أتجول في المدينة إن رغبت، وأن ثمة سيارة وسائقًا لتحقيق ذلك.

مرة ثانية إطلاق مشروط فسحة تحت الحراسة، أول ما عزمت على فعله السرقة، فعلتها لقد سرقت موبايل السائق الحارس، من غافلته في «سوق المشير» وهو سوق طرابلس التاريخي، اشتريت بمئة دولار شفرة من شاب في الشارع، ثم تخلصت من شفرة السائق في المرحاض.

يا لمجدي إنه صوته: آلو آلو من المتصل؟ ارتبكت صوته شلني، رددت غمغمة خائفة أن يغلق الخط، ثم خرجت من حنجرتي ولولة فرح: هذه أنا، توقعت ذلك طمني عنك قولي حتى كلمتين، بي شوق وولع... عند هذا نبض قلبي تسارع وأنفاسي تعالت أردت فقط سماعه كما أراد سماعي، لقد افتككت حريتي فغنيت مقطعًا من أغنية قديمة يعرفها، ما معناه أنا حرة وفي أحسن حال حين صوتك أسمع... ثم انقطع الخط، بيد أن هواجسي لم تشل روحي، فالغبطة رفعتني عني، حتى إني نمت في الكرسي كقطتي بعد أن أداعبها.

بعد أيام استطاع أن يواصلني، علمت منه أنه كل الوقت كان يحاول كما أحاول الاتصال، رفيقي الفزاني وعجوزي الحبيب زادني الغياب عنه والشوق هيامًا به.

طرابلس هذا السجن الكبير ما وجدت فيه حريتي، المدينة تاريخية ومن أقدم المدن في العالم، لكن حداثتها مشوبة بفقر مدقع رغم أن البلاد منبع النفط في البحر المتوسط! النفط ما وضعه العقيد تحت بند المجنب، حين تساءلت ما المجنب؟ قيل أي أن دخل النفط له وأولاده والأجيال القادمة! كنت أسوح في شوارع مقفرة من البشر بل من الحياة، وفي مقر الزعيم «باب العزيزية» رقص الديوك المذبوحة، حشد من اللجان الثورية مدجج بالكلاشينكوف، ما أشاهد عن بعد.

هكذا كنت حرة في تجوالي وانطباعاتي وأحلامي أيضًا، لأنني أبدو الحية الوحيدة في المدينة الجبانة التي كان أهلها يموتون ببطء، الذين انتفضوا أخيرًا من سبات، على دك صواريخ «توما هوك» المعسكرات، من قبل ما يسمى التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، الحقيقة يدك المدينة الغاصة بالمعسكرات، التي تطلق نيران مضادات الطيران البالية، كأنما كتائب القذافي الأمنية تلعب بالنار في حفل الختام.

كنت أظن أن سكان المدينة المحاصرة سماؤها وبحرها وبرها سيلوذون بالصمت، لكن لا أكمل سؤالي حتى يمطروني بإجابات مسهبة ومعارضة، لقد أسكتوا دهرًا فنطقوا كفرًا بالسجن والسجان، هكذا محمومة اندمجت في تسجيل ما أسمع وأرى، وكأنني مستكشفة مستشرقة منبهرة بضوء الشمس الحارقة. يخيم الليل مبكرًا فآوي إلى غرفتي، لقد حصلت على بعض الكتب من صحفي فرنسي يتابع قضيتي، زارني بعد جهد، وقد ذكر لي أنهم شبه سجناء في فندق خمس نجوم تعقد فيه المؤتمرات الصحفية، وأنهم لا يخرجون إلا بإذن ومع حارس وإلى جهة يسمح لهم بزيارتها أو معدة سلفًا.

ثمة فارق بينهم وبقية المدينة أن في فندقهم تتوفر الاتصالات وخاصة الإنترنت، حسدته كثيرًا حيث إني من الأكثرية التي تحصل على الاتصالات بين الحين والآخر، كلما تمكنت من الإنترنت أقوم بإنزال ما يمكن في اللاب توب خاصتي، وأمزمز ما في حصالتي في ليلي الطويل، منها مواد يرسلها رفيقي إلى إيميلي وأخرى من جدي، هكذا كنت في قلب الحدث الذي يغيب عني رغم أني في عاصمة البلاد، إما متابعة المحطات التليفزيونية فما متوفر منها في جهازي مكرور ولا يبل الريق.