Atwasat

ليوان المديفر: الغموض أجمل شعور

سالم العوكلي الثلاثاء 09 أبريل 2024, 08:25 مساء
سالم العوكلي

تتوطد عادةً علاقتي مع التليفزيون في شهر رمضان، ربما بسبب ما يفرضه هذا الشهر من رتابة وانتظام في الوقت، وإنعاش لطقوس الحياة الليلية الجماعية في مكان يفتقر إلى فضاءات الزمن الليلي المرحة، وهي فرصة لأمسح بنظرة شاملة المشهد الدرامي العربي وهمومه عبر المسلسلات التي أصبحت جزءًا من طقوس هذا الشهر وسوقه الرائجة، غير أن أهم البرامج التي تابعتها في هذا الشهر باهتمام البرنامج الحواري المهم (الليوان) في قناة روتانا الخليجية الذي يقدمه الإعلامي السعودي عبدالله المديفر، الذي من الواضح سعة اطلاعه وتجهيزه لكل حلقة بشكل يحيلها إلى ورشة عمل في أي اختصاص يتعلق بضيف الحلقة، فتنوع المواضيع بدون حدود، من الأدب إلى السياسية إلى عالم الأعمال والمال إلى العمارة وعلم النفس والفيزياء وغيرها، واللافت أن المحاور يكشف عن إلمام بكل حقل من هذه الحقول عبر أسئلته النبيهة التي تخلق معمارًا سرديًا للحلقة، وتجعل منها «حكايا»، وعبر قدرته على تقريب علوم أو اختصاصات معقدة من ذهن المشاهد العادي، ورغم تعقيد بعض الحلقات العلمية أو الأدبية إلا أن القدرة على الحفاظ على التشويق في الحوار تجعل متابعتها ممتعة مهما كان الاختصاص دقيقًا ومُركبًا.

من أهم الحلقات التي تابعتها، الحوار العميق والشيق مع الدكتور الكويتي يوسف البناي، المختص في الفيزياء وعلم الكونيات، وحقيقة لم أتعود على متابعة مثل هذا الحوار الشيق والعميق إلا عبر الترجمة في قنوات أجنبية مختصة، غير أن دراية الضيف باختصاصه وهضمه له وروحه المرحة جعلت من هذا الموضوع المعقد في ذروة التشويق، واستطاع أن يُبسط، ما وسعه ذلك، الكثير من المفاهيم المعقدة في علم يلفه الغموض، والأهم من ذلك لفت انتباه المشاهد لأهمية علم لا يلقى اهتمامًا في ثقافتنا، بل أحيانًا يكون «غير محبب» كما قال البناي أو مُحرمًا، وهو يرجع عدم بروز فيزيائيين عرب فاعلين في تاريخ الفيزياء لهذه الأسباب الطاردة، إضافة إلى أسباب لوجستية أخرى.

ربما هذه المرة الأولى التي أتابع فيها حوارًا عربيًا في قناة عربية يتطرق إلى أعقد المسائل في الكون، كالذرة والبروتون والبوسيترون، والكوارك، والنظرية النسبية، والكوانتم، والانفجار العظيم والإنتروبيا ونظرية الأوتار ونظرية كل شيء، دون أن يفقد حبل التواصل بينه وبين المشاهد العادي. ودون أن يخفي إعجابه بمصدر إلهامه من العلماء الذين استطاعوا أن يبنوا جسورًا بين العلم وشرائح عديدة من الناس، لأن الفجوة ـ كما يقول ـ حين تتسع تجعل الناس يأخذون موقفًا سلبيًا من العلوم، وهذا سيء.

من أهم ما تطرق له الضيف في حديثه التركيز على الجمال والخيال في الفيزياء، وباعتباري عاشقًا هاويًا للفيزياء وعلوم الفلك، وأكتب الشعر والرواية والنقد، كنت دائمًا أرتبك حيال هذه التركيبة التي يعتقد البعض أنها متناقضة، وكثيرًا ما يسألني البعض عن هذه الخلطة، غير أن اختصاصي العلمي وهوسي بالفيزياء كان له دور كبير في إلهامي الشعر والأدب عمومًا. لقد أسعفتْ مصطلحات الفيزياء الكثير من ظمأ لغة النقد الأدبي الذي كان يصوغ نظرياته دون العثور على مصطلحات مناسبة أو دقيقة، ولن نستغرب ذلك، لأنه كان للخيال دور كبير في ابتكار الكثير من النظريات والفتوحات الفيزيائية التي اعتمدت على الحدس والمخيلة الذكية قبل أن تؤازرها التجربة المختبرية بقدر كبير من الوجاهة. ولا ننسى أن العالم الدنماركي، هنريك بور، قال في إحدى محاضراته وهو يعرض نظريته الفاتحة في بناء الذرة: أحتاج إلى لغة الشعر كي أقربها لكم أكثر. ويتضح عشق البناي لجمال النثر الأدبي في حديثه عن جمال لغة وأسلوب كتاب ستيفين هوكينج (نظرية كل شيء) الذي ترجمه إلى العربية، وحقيقةً الكتابة عن الفيزياء ومناطق الغموض أو ما سماه «شعور الغموض الجميل» هو ما يجعل اللغة تقترب من الشعرية بقدر ما فيها من شحنة خيال وحدس وتأمل وجمال نسق، وهي المقومات التي كانت وراء ظهور نظريات أينشتاين العظيمة التي كانت عدتها دماغًا ذكيًا وقلمًا وورقًا ولم يدخل مختبرًا أو يجري تجربة. وربما هذا ما جعلني أكتب في رسالة إلى صديقي الشاعر والطبيب عاشور الطويبي قائلا: «دعنا نتحدث عن الفيزياء، هذا العلم الذي عشقته، والذي استعارت منه الفلسفة والنقد الأدبي مصطلحاته، علم تجريبي اعتمد على الخيال... أتشوق لقراءة كتاب الرجل الأشد غرابة الذي أشرتَ إليه، ولقائك بروح هذا الرجل الذي لا أعرفه سببه اللقاء الأزلي بين خيال الفيزيائي وخيال الشاعر فضلًا عن الطفولة»*.. وكانت هذه الرسالة ردًا على رسالة الطويبي التي يفصح فيها عن هوسه بالعلم، والفيزياء خصوصًا، لأن الخيال والغموض ركيزتها مثلما هي ركيزة للشعر والفن، يكتب عاشور: «طوال حياتي، أعطي للمخيلة المكانة البارزة في كلّ شيء. المخيلة صانعة، المخيلة إله. ما قرأت علمًا من العلوم إلا وتمنيت أن أكون صاحب سبق فيه. استهوتني الرياضيات، تحديدًا: الجبر، التفاضل والتكامل، الهندسة الفراغية. كيف يمكن للعقل إعادة صياغة الكون كله بمعادلات وأرقام ورموز؟! -كتبتُ قصيدة شعرية طويلة، تبدأ بإقليدس وتنتهي بعاشور- بدأتُ قراءة كتاب: (الرجل الأشدّ غرابة) وهو كتاب عن الفيزيائي الإنجليزي بول ديراك، كتبه غراهام فرميلو. بول ديراك ولد من أب فرنسي وأم انجليزية عام 1902 ومات عام 1984. يعد واحدًا من أهم علماء الكوانتم في العالم. ثم استهوتني الفيزياء، وسعيها الحثيث لتفسير الخلق والحياة. كذلك الكيمياء وعلم الآثار، والأحياء، والتشريح وعلم وظائف الأعضاء. المختصر المفيد كل العلوم وكل الفنون. الفيزيائي صديقنا الذي حدثتك عنه في الرسالة السابقة، وصل إلى ما وصل إليه من إنجازات في الفيزياء الرياضية، بالمخيلة وليس باستخدام أي تجربة. عندما تقدم بطلب للعمل في جامعة ولاية فلوريدا، وكان آنذاك كبيرًا في السن يعمل في قسم الفيزياء بجامعة كمبردج الإنجليزية المرموقة، وكان قسم الفيزياء في جامعة فلوريدا في المرتبة فوق الثمانين بين الجامعات الأمريكية، قال أعضاء القسم، نحن لسنا في حاجة لرجل مسنّ، ردّ عليهم رئيس القسم: قبول هذا الرجل في قسم الفيزياء بجامعتنا كأن تقبل شكسبير في قسم الأدب الانجليزي».

أيضًا، من أجمل الكتب التي قرأتها (أينشتاين ـ بيكاسو: المكان والزمان والجمال الذي ينشر الفوضى) وواو العطف التي تأتي بين عالم فيزيائي ورسام مردها إلى ما بينهما من خيال مشترك وعيون ثاقبة، حيث يبحر الكتاب في نبش العلاقة بين فيزياء أينشتاين ولوحات بيكاسو، ويكمن سر المقارنة، في كون بيكاسو تعرف على عالم الرياضيات (مينكوفسكي)؟ الذي كان أستاذًا لأينشتاين، وصاحب نظرية البعد الرابع، أو الزمكان رباعي الأبعاد، وهو البعد الذي استلهمه بيكاسو في لوحاته الناضجة، ويتجلى ذلك جليًا في (لوحة آنسات أفينيون) خصوصًا، التي تعرض شظايا متزامنة من منظورات متعددة.
ما زاد أيضًا شغفي بالعلم وفلسفته، صداقتي الحميمة مع البروفيسور في فلسفة العلم نجيب الحصادي الذي له في حقل الفلسفة أكثر من 20 مؤلفًا، وأكثر من 50 كتابًا مترجمًا، من بينها دليلا أكسفورد وكمبريدج للفلسفة، وشاء الحظ أن أراجع الكثير منها وأن أجد متعة قراءة الشعر أو الرواية في بعضها المكتوب بلغة غاية في الجمال وفي فن الوصف والسرد مثل كتاب ديفيد ليندلي «مبدأ اللاتيقن، هايزنبرج، بور وأينشتاين والصراع من أجل روح العلم»، وكتاب «تاريخ موجز للفلسفة» لنايغل روبرتن، الذي يحيل عنوانه إلى كتاب هوكينغ «تاريخ موجز للزمن»، وتمنيت في هذه الحلقة أن يُسأل البناي عن رأيه في فلسفة العلم، خصوصًا أني أطلعت أخيرًا على كتاب حديث ترجمه أيضًا صديقي الحصادي بعنوان «هراء عصري: سوء استخدام مثقّفي ما بعد - الحداثة للعلم» تأليف الفيزيائيَين: ألن سوكال/ جين بركموت، يُفصّل في العداء المحكم بين بعض العلماء وفلاسفة العلم أو مفكري ما بعد الحداثة، تصل لدرجة السخرية والتهكم. والذي يقول عنه فريد مودي: «هذا الكتاب مسلٍّ تماما... أي شيء أصعب من مقاومة فرصة أن تطرح أرضًا مفكرًا كبيرًا يحظى باحترام واسع بأن تكشف عن حماقاته؟».

ذكرني حديث البناي عن متعته بالجمال كفيزيائي حين ينظر إلى وردة وهو يدرك باطنها، أو يتطلع إلى البحر وهو يدرك ما يمور في جزيئاته، وما يمكث فيه من ذرات الانفجار الكبيرـ بمقالة كتبتها من سنوات بعنوان (السكوت المتبادل): «يسكت عالِم الأحياء عن وصف ألوان الفراشة مثلما يسكت الشاعر عن استبطان خمائرها الهاضمة. عندما شاهدت في المعمل، ولأول مرة، معلم الأحياء وهو يقوم بتشريح فراشة، تألم هذا الحس الجمالي في داخلي، وولجتُ دون أن أدري جدلية معقدة بين مفهومي العلم والجمال، وتكرس لدي رأي متسرع بكون العلم مناقضًا للجمال أو مقوضًا له، ونتيجة لولعي المبكر بالأدب والشعر، ووجود نفسي مضطرًا لأسباب بيئية وإدارية لدراسة المجال العلمي، كنت أحاول أن أوفق من جديد بين شغفي وتخصصي، فكنت أتحسس مكامن الجمال في الدراسة العلمية، في المعادلات الرياضية وجمال البرهنة عليها، في علم الاحتمالات والحدس والتنبؤ في مادة الإحصاء، في خيال الفيزياء الذي نلمسه في المختبر، وفي غموض نظريات الكم والنسبية، وفي المعادلات الكيميائية وتلك الألوان التي تشرق علينا في أباريق معمل الكيمياء التحليلية عند نهاية كل تفاعل».

*الرسائل كاملة نشرت في كتاب «أثر الطائر في الهواء: رسائل بين سالم العوكلي وعاشور الطويبي». دار الفرجاني للطباعة والنشر والتوزيع. 2024م.