Atwasat

السكون الصاخب

محمد عقيلة العمامي الإثنين 08 أبريل 2024, 03:47 مساء
محمد عقيلة العمامي

"عشق السكون.. كل امرأة هاجر" هو عنوان رواية الكاتبة التركية (نورية تشالاغان) المستمدة من قصة النبي إبراهيم عليه السلام الواردة في القرآن الكريم. وعلى الرغم من التزامها بمعلومات النص الديني (القرآني) وتسلسل أحداث القصة، إلاّ أنها تجتهد باقتدار، في استنطاق الشخصيات، الأنثوية تحديدا، وسرد ما يدور في عقولهن، مبرزة بيئتهن، وتداعيات أحداثها، وردود افعالها.

الرواية صدرت العام 2013 وتوالى نشرها وتُرجمتها طوال العشر سنوات الماضية، ولكنني لم اقرأها إلاّ مؤخرا، معتقدا أنها سرد لسيرة دينية بالدرجة الأولى، ولكنني انتبهت إلى أن أحداثها أبرزت مساحة حياتية، إنسانية، ممتلئة بالروحانيات، وكذلك بأمور المعيشة، بكل ما فيها من انفعالات إنسانية من غيرة وحب وكراهية في زمن قيام أديان شكلت جزءا كبيرا من قناعات العالم الحديث.

لقد تَتَبعت الروائية شخصياتها، المرتبطة بالدين، في مساحة مكانية كانت، وستظل مقدسة، واكبت هذه الشخصيات في حلها وترحالها، مبرزة جوانب إنسانية، لقصة واقعية، تناولت بعضا من أشكال العشق الإنساني، بلغة وسرد صوفي، مبرزة ما يشوه صفاءه من ضعف مشاعر البشر، التي تشوه التوازن الروحي الذي تتنازعه الأهواء الإنسانية، وتظل الحيرة تحضر ما بين إيمان القلب وضعف النفس البشرية، التي تخنقها الغيرة بين الحين والآخر.

السيدة (هاجر) قد تكون هي بطلة الرواية، وكيف لا؟ وهي حاضرة من البداية، فاقتفى الناس أثرها، وظلوا يتشبهون بها، ولولاها لم يتحقق لا حج ولا عمرة.. فالسعي بين الصفا والمروى حاضرة دوما مع الجميع الذين صاروا يقتفون أثرها وهم يسيرون، ويحاولون التشبّه بها، لأنه دون سعيها لإنقاذ ابنها، سيدنا إسماعيل، الذي يعد رمز الطاعة، وبر الوالدين، لا أحد كان سيعرف لا الصفا ولا المروى! ولولها لا عمرة تتحقّق ولا حج نودعه سنويا بعيد بهيج.

من سيرة النبي إبراهيم تنسج الرواية حكايتها، فستلهم العبر من قصة السيدة (هاجر) خادمة السيدة (سارة) زوجة سيدنا إبراهيم، فهي التي اختارتها لتكون زوجة لزوجها، سعيا وراء ذرّية صالحة، فالنوايا الطيبة إنسانية، وكذلك الغيرة.

وتبدأ الرحلة نحو تأسس دين إنساني يتناول الجوانب الإنسانية السالبة والموجبة، ويتواصل الصراع بحثا عن السكون والراحة والتوجه الحثيث نحو الخالق، وجناته. نحو الفرحة بالعيد من بعد الشقاء، الرمز واضح والعبرة كذلك وهى تأرجحنا ما بين (صفاء) النفس، وتعبها، وصولا إلى عيد حقيقي.

كل ذلك تأسس على مشاعر السيدة هاجر، وما يعتمل في قلبها من صراع يستمر الخير فيه لأمومتها وزواجها وابنها، وإيمانها بربها، فتتسامى على ضغائن غيرة النفس البشرية بعيدة عن المكائد والبؤس والنميمة النسائية، كل ذلك الصراع يتواصل، ويعتمل في نفسها وهي تسرع الخطى وراء زوجها نحو منفاه، متفانية في خدمته وعبادة ربها، في حين نجد صراعا نفسيا آخر يعتمل بسبب غيرة السيدة ساره، التي انتقت هاجر كزوجة لزوجها، ولكن غيرة النفس البشرية تسلطت عليها، بينما تسلطت، على السيدة هاجر أوامر ربها وطاعة زوجها، ولعل ذلك يعكس لنا رأي السيدة الروائية وقناعتها بطاعة أوامر الله، من دون أن تمنح ثغرة لتسلط النفس البشرية الأنثوية، التي ترفض بالطبيعة شراكة لها في بعلها.

الرواية لم تكن مجرد سرد لسيرة سيدنا إبراهيم، وإسماعيل عليهما السلام، ولا حكاية هاجر وسعيها بين الصفا والمروى بحثا عن ماء لابنها، وتفجره، ويصبح سعيها الحثيث نحو طاعة الرب منطقة من طاعة الزوج طقسا من طقوس الحج إلى بيت الله الحرام.

إن الرواية تثمن عظمة النساء، متخذة من المحيطات بالنبي إبراهيم عليه السلام رمزا لهذه العظمة، مبينة في الوقت نفسه، بعضا من "الضعف الإنساني الأنثوي جراء الضرر من مشاركة امرأة أخرى لرب البيت، حتى وإن كانت الزوجة الأولى هي من اختارتها، فتحدّي وساوس الشيطان ومجاهدة النفس الأمارة بالسوء، والاتّكال على الله والثقة فيه والإيمان المطلق بمشيئته، دون إبداء أي تذمّر أو تململ.

هل نستطيع أن نقول أن الرواية تريد أن تبين أين الخطأ في الجمع بين الزوجتين، وقبل ذلك هل هو فعل عملي يتعين أن يكون مقبولا يتعين أن يكون كذلك في تلك المجتمعات التي ترفض تعدد الزوجات أو تستهجنه. الرواية باختصار شديد محاولة جادة لمناقشة هذا الرأي بسلاسة وبساطة ووضوح.

وعلى الرغم من إحساسي باهتمام الروائية التركية (نورية تشالاغان) بتوضيح رأي خلاصته، أن مشيئة الله وأوامره نافذة لدى المؤمنين والمؤمنات إلاّ أن ثمة رأيا آخر يبرز على نحو ما، يرى أن مغبة تعدد الزوجات، مؤلم لهن وإن كان، أحيانا، مثمرا لهن أيضا!

وتحضر إسقاطات أخرى متعلّقة بمصر والعراق ومكة المكرمة، ترمي الكاتبة من خلالها إلى استنهاض الهمم للاقتداء بشخصيّات شكلت علامات فارقة في التاريخ بسلوكها وتضحياتها وسموها وإيمانها.