Atwasat

التنظيمات السرية في الجيش الليبي 1952- 1969 (12)

سالم الكبتي الأربعاء 03 أبريل 2024, 03:27 مساء
سالم الكبتي

.. وقبل أن نخوض في تنظيم الرواد من الضروري القول أن الطريق الذي تشكلت فيه تنظيمات الجيش السرية عبر تلك الأعوام المحمومة بالهواجس والترقب قد أدت إليه مقدمات وتراكمات تفاعلت في قاع الجيش وأفضت إلى دروب مختلفة نمت وتحركت خلالها تلك التنظيمات التي تنوعت وأدركها الإخفاق ولم تعرف الاتجاه الصحيح. الستينيات كانت صدى قويا لذلك الحراك السري العسكري ورأينا أكثر من تنظيم ينشأ ويظهر، وربما هناك تنظيمات أخرى طواها التاريخ في صفحاته وتوارت وراء الأفق وقد يكشف عنها المستقبل ذات يوم.

رأينا أيضا أن عديد الضباط شاركوا بمنتهى الثقة والاطمئنان في أكثر من تنظيم سواء في عين الوقت أو على مدد متفاوتة من تلك الأعوام.. فهل كانوا يغيرون السروج أو يراهنون على جواد رابح يفوز بالرهان. وتبين للرائي والمتابع بوضوح تام أن كل هذه التنظيمات والخلايا السرية نشأت وتكونت في الغالب في مدينة واحدة هي بنغازي ولم تنشأ في مناطق أخرى. الوحدات العسكرية شهدت هذا التكوين.. الكلية العسكرية ومعسكرات قاريونس وراس عبيدة وغيرها ثم امتدت مع تواجد أعضاء التنظيمات في وحدات بالمرج والخمس ومصراتة وسبها والزاوية وغيرها أيضا.

كانت المدينة بؤرة لهذا الحراك الذي جمع وشمل أعضاء التنظيمات من كل المدن والمناطق في ليبيا.. فهل ثمة سبب مباشر، أو غير مباشر، يوضح ذلك.. كيف التقى الزمان والمكان والفعل والتفكير في بنغازي دون سواها.. ولوحظ أيضا عبر سرد التاريخ السري للتنظيمات أن أولئك الأعضاء الذين احتوتهم كانوا من تركيبة اجتماعية متقاربة ومستوى معيشي وعلمي واحد وأعمار واحدة. كانوا يتحددون في جيل الثلاثينيات أو بدايات الأربعينيات في القرن العشرين الذي مضى. جيل شهد التحولات والمرارات ومعاناة ما بعد الحرب وما فيها من فقر وحاجة ودموع.. كانت التركيبة صدى لمشهد واقع محلي ومجتمع في أساسه رعوي وغير مستقر وبدأ في الهجرة إلى المدن وترك خلفه الأرض والزراعة والحصاد والمواشي وانتظار المطر، إضافة إلى ما يسود المدينة من تقاليد وأعراف وطرق معيشة لا تختلف كثيرا.

فالمجتمع لا تسوده الطبقية أو الفئوية أو الإقطاعية وغيرها من مظاهر تلاحظ في مجتمعات مجاورة. ولذلك كان يسهل التلاقي بين التركيبة الليبية الحضرية أو البدوية على وجه العموم. وكان على سبيل المثال القبول للالتحاق بالكلية العسكرية لا يهتم بالحالة الاجتماعية أو الوجاهة القبلية أو النفوذ. لم يلاحظ كثيرا، سوى من الاستثناءات، وجود أبناء متنفذين في السلطة من وزراء أو مسؤولين كبار أو الحاشية الملكية في صفوف الدفعات، ولوحظ في الأعوام الأخيرة من العهد الملكي تخرج ابن أحد رؤساء الوزارات السابقين. تخرج في سبتمبر 1969 ولم يكن والده رئيسا للوزارة أثناء وجوده في الكلية ولم يدم بقاؤه في الجيش فترة طويلة. أخرج من الجيش عام 1970.

وفي المجمل لوحظ أيضا على هذه التنظيمات التي ظلت في محل يشكك في وجودها أصلا أنها احتوت على أكبر قدر من الضباط أبناء المدن ومناطق الاستقرار الحضري في البلاد، وعلى هذا لم يلاحظ أي تكتل قبلي أو جهوي في نشوء التنظيمات التي نحن بصدد سرد سيرتها وهي في ذمة التاريخ لا محالة وإن لاح قليلا في ردة الفعل للثأر لإبعاد رئيس الأركان عام 1961. أخذت تلك المحاولة أو ردة الفعل في نظر الكثيرين شكلا قبليا أو تكتلا من أجل شخص وليس من أجل قضية عامة!

إن الكثيرين حتى من كانوا داخل الجيش نفسه ربما أصيبوا بالاندهاش لتسرب هذه التنظيمات وتواصلها داخل الجيش دون سبب مباشر وقوي يعطي تفسيرا لما جرى. التفسيرات والتحليلات تعددت. وكل تنظيم بهذا الشكل ظل يغني على نهاره وليلاه. كان أغلب هؤلاء الكثيرين لا يصدق أن هناك تنظيما حقيقيا ينجح في إصابة الهدف أو أن هناك أيضا تنظيما بمعنى (التنظيم الصحيح) الذي يتكيء على قاعدة داخل الجيش أو خارجه وحتى تنظيم الضباط الصغار الذي نجح أخيرا في السباق سخروا منه واعتبروه مجرد دعاية أو محاكاة أو حلم (عيال) ولقد ظل الواقع المنظور يعكس غير هذا على وجه التمام.

فكيف تجانست هذه المجموعات وألفت بينها رتب عسكرية تفاوتت في الأقدمية والدرجة. والأقدمية في العسكرية قاتلة والطاعة صارمة وواجبة. كيف جمع التنظيم رتبا متقدمة وأخرى متدنية وكيف تسلل تفكير العمل السري وتكوين التنظيمات إلى هذه المجموعات من الضباط وما هي الدوافع التي طفقت تتحدد في (الثورة) على مظاهر الفساد الذي بدأ يستشري في مرافق الدولة ورجالها وتأخرها عن شقيقاتها في الواجب القومي بحسب منظور أعضائها وأنها في كل أشكالها لا تود المساس بالملك أو إهانته أو أن تلحق به أي سوء؟ ثم كيف يتسق كل هذا مع الطموحات والرغبة في (الانقضاض) على النظام برمته دستورا ومؤسسات ومرجعيات وعلاقات وما إلى ذلك.

فيما يعتبر الملك عند بعضهم هو رأس هذا النظام الذي نشأ وأسس الدولة عقب إعلان استقلالها عام 1951 وقد أقسم الجيش كله عبر تفويج الضباط والجنود بالولاء للملك.. (أن أكون مخلصا لله والوطن والملك).. تلك لازمة القسم المتكررة على الدوام وكانت ترددها الشفاه والألسن في ساحات التخرج وتتردد أصداؤها بلا توقف. ما هي الضرورة التي استدعت واستوجبت الركون إلى التغيير العسكري وقلب الأمور من أساسها وخلط الأوراق في مجتمع يعيش صدمة واقع اقتصادي جديد تكون أثر ظهور البترول وتصديره عام 1961 إضافة إلى ظروف إقليمية وعالمية مؤثرة. هل كان ذلك ضرورة ملحة؟ هل كان على العسكريين الليبيين أن يحاكوا الأمثلة والنماذج المجاورة ويقوموا بتطبيقها في الداخل. وهل تتوقف الأسئلة عند هذا الحد. هل ثمة لعبة غير منظورة أدت إلى نهج التغيير العسكري وأكدت عليه؟!

إن التراكمات التي طغت في الجيش كانت نتيجة عوامل برزت في البلاد والجيش نفسه مع مرور الوقت: تأثيرات النفوذ. وجود الجماعات والشلل المحسوبة على طرف أو أطراف معينة لها علاقة مباشرة بالحاشية الملكية. التنافس المتسارع أو التضارب بين الجيش والبوليس في كثير من الحسابات على أرض الواقع وصفقات الأسلحة المنتظرة في مرحلة لاحقة التي فاحت رائحتها عند البعض من المتنفذين سواء داخل الجيش أو خارجه لدرجة الضرب صفحا بإبلاغ الملك بما يجري من تكوين تلك التنظيمات خشية أن يوقف موضوعة تطوير الجيش واستبدال ذلك بمعالجة مؤقتة تعتمد (نفي) الضباط في دورات خارجية أو إبعاد بعضهم أو تشتيتهم بطريقة أو بأخرى.

إن هذه العوامل الكامنة في الصدور جعلت في نهاية السباق من الكثيرين في هذه التشكيلات السرية يؤيدون انتصار تنظيم الضباط الصغار دون أية مقاومة تذكر. لقد اطمأن هؤلاء إلى أن العقيد عبد العزيز الشلحي لم يكن وراء هذا الانتصار المفاجيء أو ضمن التغيير الذي حدث. تداخلت التنظيمات وتسألت ذلك الصباح في وجه القادمين الجدد سؤالا واحدا لا يشمل أية أسئلة أخرى.. (الشلحي فيها) وكان الرد (ليس فيها) إنه الآن (في دار خالته). وسارت البلاد إلى طريق آخر يقع بين هذا السؤال وذلك الجواب.

استعمل العقيد الشلحي فزاعة داخل الجيش في حقيقة الأمر أكثر من غيره فيما يتصل بترؤسه تنظيما وحده أو إعداده لتنظيم يتبعه. وهذا يقودنا أيضا قبل ولوج طريق تنظيم الرواد إلى ما تردد من أقاويل عن محاولة لتغيير النظام عام 1962 يقودها البوصيري الشلحي ناظر الخاصة الملكية والشقيق الأكبر للعقيد عبد العزيز. هل كان ثمة توافق أو تصادف لمجريات الأحداث في ذلك العام البعيد؟!

طريق التنظيمات لم يكن سالكا وحده فقط. كانت تتدفق في أنهاره المزيد من المياه.. ولكن بهدوء.