Atwasat

الثيران العربية السوداء بعد حرب غزة

صالح السنوسي الأحد 17 مارس 2024, 09:50 مساء
صالح السنوسي

دور الوساطة والحياد الذى تمارسه الدول العربية بين إسرائيل والفلسطينيين قد يثير دهشة وغضب البعض، ولكن في الواقع ليس هناك ما هو مفاجيء أو مثير للدهشة إذا ما تتبعنا في عجالة المراحل التي مرت بها الكيانات العربية منذ نشأتها إلى أن وصلت إلى الحالة التي عليها الآن، فهذه الكيانات قامت معظمها معتمدة على البُعد القبلي أو الطائفي أو الجهوي، وجرى توظيف هذه الظواهر لتكون المبرر والقاعدة التي تستند عليها هذه الكيانات التي ظهرت منذ وقوع زلزال الغزو، ومجيء أساطيل الغرب، رمز حداثته وتفوقه، حاملة معها خرائط تقسيم مناطق النفوذ والمصالح، التي على ضوئها منحت قوى الغرب إقطاعيات لا علاقة لها بالحقائق التاريخية والاجتماعية إلى زعامات لتمارس داخلها نفوذا بواسطة مؤسسات تتشابه شكليا مع تلك التي تميز الدولة الوطنية في الغرب من حيث الحدود والعلم والسيادة، وهي مفاهيم لا تعني شيئا عندما يعتمر الغرب خوذة الحرب، ليؤدب أي مارق عن نفوذه داخل هذه الكيانات، ولكنها في الحقيقة كانت مرحلة فاصلة في تاريخ المنطقة التي سارت بعدها على طريق أوصلها إلى المرحلة الحالية.

وقد بدأ منذ تلك المرحلة تكريس وتدويل الخلافات والصراعات بين الزعماء المحليين، من مشايخ وأمراء وزعماء طوائف، حيث اكتسى دفاع هؤلاء عن حدود نفوذهم وسلطتهم ثوب الدفاع عن دولة ووطن وشعب وهوية، وبدأت الكتل البشرية المعزولة عن بعضها داخل هذه الكيانات تستشعر كل منها تدريجيا - تحت رعاية الغرب وتشجيعه - تميزا عن الكتلة المجاورة لها بسبب ما يحتوي عليه هذا الكيان أو ذاك من مكتسبات الثروة الطبيعية التي شاءت خرائط التقسيم الغربية أن تكون في هذا الإقليم وليس في ذاك، ومن هنا بدأت تدب مشاعر الخوف من الجار وليس من الغرب الذى لا يأنف أحد من سطوته والخضوع له، فأصبح هو الملاذ والملجأ للحفاظ على هذا الواقع الذى صنعته استراتيجيته القائمة على حساب مصالح هذه الكيانات التى تستظل بحمايته.

كان ولا يزال رهان الغرب في الحفاظ على هذه الاستراتيجية ليس على الأنظمة السياسية، فهذه لا تشكل له مشكلة حقيقية، فإذا شذ أحدها لسبب أو آخر عن خطة السير المرسومة له فليس هناك أسهل من الإلقاء به خارج المشهد، ولكن الرهان الحقيقي هو على هذه الكتل داخل تلك الكيانات بأن تتبنى ثقافة وتسلك سلوكا يجعلانها خادمة لهذه الاستراتيجية من خلال تقمصها هويات متصارعة ومتناحرة، ومصالح متضاربة ومتناقضة، تبيح لها التحالف ضد بعضها مع الشيطان، وليس مع الغرب وإسرائيل فقط.

في مرحلة لاحقة بلغت مرحلة التدجين والتأقلم الحد الذى شاركت فيه أنظمة بعض هذه الكيانات بالسلاح والرجال في الحملات العسكرية التي قام بها الغرب ضد كيانات عربية أخرى عندما ساءت علاقاته بحكامها الذين تجرؤوا وتمردوا على قواعد اللعبة بينهم وبين الغرب، وذلك تحت ذريعة تنفيذ قرارات الشرعية الدولية التي لم يحترمها الغرب عندما تعلق الأمر باستيلاء إسرائيل على أراض من هذه الكيانات، بل اعترف بشرعية ضمها من قِبل إسرائيل.

المرحلة الحالية تعد المختبر الحقيقي الذى اختاره الغرب لقياس مدى نجاح هذا المخطط، الذى بدأ منذ أكثر من قرن، في تدمير كل ما هو مشترك بين هذه الكتل العربية المتجاورة، فحرب غزة ليست مجرد معركة من معارك إسرائيل التي يقاتل فيها الغرب إلى جانبها حتي النصر، بل أرادها الغرب نقلة نوعية تاريخية لها كل ما سيأتي بعدها في تاريخ المنطقة، فهي مختبر تاريخي للجماهير العربية، وليس حكامها، على الصعيد النفسي والسيكولوجي والسلوكي والمادي والمعنوي، وأيضا على صعيد عقلنة التدجين والقبولية والتكيف، فحرب غزة هي أول حرب في المنطقة تجرى أدق تفاصيلها الهمجية أمام عدسات الفضائيات، وهذا أيضا جزء من خلق وترسيخ حالة التعود والتآلف واللامبالاة والقطيعة مع المشاعر وردات الفعل والسلوكيات التي كانت تأتي بها أغلبية هذه الكتل في المراحل والحروب السابقة.

يبدو أن مخطط الغرب الاستراتيجي، الذى بدأ منذ أكثر من قرن ونصف القرن، لتفكيك وتدمير كل ما هو مشترك وجامع بين العرب قد جرى تتويجه بنجاح في مختبر حرب غزة، ولعل المؤشرات التالية تؤكد ذلك:
1- لم تقم في أي كيان من هذه الكيانات مظاهرات بحجم وزخم واستمرارية المظاهرات التي جرت وتجرى في البلدان غير العربية.
2- استمرار المهرجانات الثقافية والرياضية والملتقيات الدولية، التي يشارك في بعضها إسرائيليون، دون أن تنعكس على هذه التظاهرات مأساة الشعب الفلسطيني في غزة التي تأثرت بها شعوب في قارات بعيدة.
3- لم تشهد الحروب السابقة مع إسرائيل هدوءا في حركة الجماهير مثل الهدوء الذى شهدته وتشهده الساحات العربية في أثناء حرب غزة على الرغم من العربدة الإسرائيلية، واستفزازية الغرب، وبشاعة الاختبار.
4- جرأة الأنظمة العربية علنا للمرة الأولى على القيام بدور الوساطة المحايدة بين القتلة الإسرائيليين والضحايا الفلسطينيين دون أي حذر من ردات فعل داخلية.

ما كان لمشهد الموت والنار في غزة أن يمضي بكل تفاصيله وبشاعته لو لم ينجح مخطط الغرب في كل مراحله، حتى أوصل هذه الجماهير إلى حالة من التدجين والتكيف ليس فقط عن طريق قهر الأنظمة لها، بل أيضا عن طريق:
أولا: إغراقها في صراعات ومشاكل خانقة داخل كل كيان من هذه الكيانات التي رسمتها استراتيجية الغرب منذ أكثر من قرن، وأصبح الكثير منها يتحلل ويتشظى إلى عشائر وطوائف وجهويات، كلها تبحث عن إقامة كيانات ميكروسكوبية قد لا تكون قابلة للحياة، ولكنها تستظل بحماية الغرب وإسرائيل.

ثانيا: الإسهام في تنشئة أجيال «نخبتها الفاعلة» تتبنى الانكفاء على الذات والخروج من مستنقع الصراع مع إسرائيل، وتركز على البناء والتنمية والتقدم بالشراكة مع أي طرف، ولو كان إسرائيل، وتتعامل مع أي طرف عربي على أنه جار قريب فرضته الجبرية الجغرافية، ويجب الحذر منه، وعدم التورط في أي خلاف بينه وبين الغرب أو إسرائيل. غير أن هؤلاء نسوا أن لا الغرب ولا إسرائيل يسمحون لأى كيان في المنطقة بأن يحقق قدرا من التقدم الذى يزاحم هيمنتهم الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وأن أقصي ما يمكن أن يقدمه الغرب لهذا الكيان هو عدم العمل على تفجيره من الداخل وتشظيه إلى كيانات قزمية متناثرة.

لقد رفعت حرب غزة الستار عن مشهد مستقبلي مخيف، مشهد يبدو فيه العرب مجرد كيانات متجاورة، لا يربط بينها مصير مشترك، وكل واحد من هذه الكيانات يبحث عن خلاصه الفردي المستحيل، لأنه إذا ما انتصرت إسرائيل بفضل هذه الهمجية التي لم يلجمها عنها الغرب، فإن هناك كيانات أخرى، ولعل أولها لبنان، ستلاقي المصير نفسه، فأى كيان تستهدفه إسرائيل في المستقبل سيظل جيرانه يتفرجون عليه في مشهد معاد لحرب غزة، وهو شبيه بمشهد قطيع الجاموس الذى يتفرج على الأسد وهو يقتل ويفترس أحدهم وسط القطيع.

لقد قطعت حرب غزة مع كل ما سبقها في تاريخ المنطقة، وغدت درسا يجب أن يضعه أي عربي نصب عينيه قبل أن يخاطب إسرائيل وهو رافع رأسه. وفي حال انتصار إسرائيل المدججة بتكنولوجيا الغرب، والمتماهية مع استراتيجيته، فإنها ستضع أسسا متينة للسلام الروماني الذى فرضته جيوش روما على شعوب البرابرة، ولم تقبل منهم سوى الاستسلام والخضوع، وهو إرث تلقاه الغرب من روما، وأصبح أحد أهم ركائز استراتيجيته في المنطقة.